ربيع الصقور.. خريف الحمائم!

TT

إذا كان «الربيع العربي» لم يكن متوقعا، فإن الأكيد أن آثاره وعواقبه ومساره السياسي يمكن التنبؤ به وفقا لطبيعة القوى الصاعدة ومدى فهمها والتزامها بالديمقراطية كثقافة وليس كأداة وصول إلى الكرسي. منذ البداية كان التحالف «الهش» بين الإخوان والسلفيين ينذر بالاختلاف بعد تقاسم الكعكة السياسية وفقا لطريقة فهم السلفيين للسياسة على طريقة «التشريف» والاستخلاف الذي يستحقه الصالحون من عباد الله، وهي مباينة لرؤية الإخوان للعمل السياسي القائمة على مبدأ «الغنيمة» والتمكين الإلهي، وكلاهما بالطبع يصدر عن ذاتية لا ترى الحقيقة أبعد ولو خطوات من مكتب الإرشاد، أو من الإرث «اليقيني» الهائل الذي صنعه السلفيون لأنفسهم اجتماعيا، لكنهم ظهروا كـ«مراهقين» سياسيين في التعامل مع الإخوان الأكثر قدرة على الإمساك بخيوط اللعبة وإن كانوا الأقل من حيث الاستحواذ على الشرعية المجتمعية التي تؤسسها «سلطة» السلفية الروحية.

إذن السلفيون سياسيا حمائم وادعة بينما يتحولون إلى صقور جارحة في ما يخص الملفات الاجتماعية المتصلة بالهوية كالحجاب واللباس والمظهر، لكن هذا التشدد الاجتماعي يقابله تسامح سياسي بدا واضحا في أزمة الفرز والاستقطاب التي يعيشها الطرفان في مصر وتونس بدرجة أساسية وبدرجات أقل في باقي الدول «الربيعية».

الإخوان في المقابل صقور العمل السياسي، حيث بدا واضحا على عكس ما كان يقال من أنهم الأقرب لفهم طبيعة الديمقراطية والتعددية بحكم العمل الحزبي الطويل، فالاعتماد على نتائج الصندوق المبنية أصلا على تحالفات ومخالفات وكم هائل من المغالطات الدستورية، إضافة إلى استغلال فاضح للمنابر والكوادر الحزبية في الشارع، كل ذلك تحول إلى ما يشبه «الفزاعة» في وجه كل من يريد أن يحاقق «الجماعة الأم» في سلوكها تجاه الاستحواذ على السلطة.

وفي التفاصيل فإن الفترة الماضية كشفت لنا عن خلافات داخل الإخوان أنفسهم بدا واضحا في تونس، لكنه لا يزال مضمرا في مصر بحكم اختلاف ثقل الجماعة في كل من البلدين، وهو الأمر الذي تترجح فيه مركزية «الجماعة الأم» في مصر وصعوبة التغيير فيها إذا ما قورنت بإخوان «الخارج»، ولهذا أسباب تتعلق بطبيعة التراتبية الحزبية داخل الجماعة نفسها، حيث يرفض صقور الإخوان في مصر أي تغييرات داخل مكتب الإرشاد أو عمل إصلاحي ونقدي وتدار المناصب والمسؤوليات بعقلية التوريث «الحزبي» وليس السلالي، وهو ما يمكن قراءته بوضوح في اختيار المرشد كل مرة.

الأمر مختلف قليلا في إخوان الخارج، فهناك هامش من الاختلاف على الأقل في الأجيال الجديدة من الجماعة، التي تأثرت ولا شك بالأطروحات النقدية للإسلام السياسي وتحاول جاهدة تبيئة نماذج عسرة وشاقة كنموذج الإسلام التركي باعتباره نموذج الخلاص في ظل هذا الاشتباك السياسي الحاد، وغني عن القول أن التغزل بالنموذج التركي هو محاولة لاستثمار نجاحاته التي هي خليط معقد من العوامل والظروف التي تخص الحالة التركية أكثر من كونها قابلة للاستنساخ، على الأقل الممانعة السلفية في تركيا مفقودة، كما أن الإرث العلماني الهائل ساهم في تمحيص أطروحات الإسلام السياسي وتشذيبها، فحتى مع العداء الهائل بين الأطروحتين هناك جزء من نقاط التماس في ما يخص النظرة إلى القومية التركية لكن من زاوية مختلفة، وتلك قصة أخرى مثيرة.

الآن يبدو الخلاف واضحا بين الصقور الجارحة أو المجروحة من فقدان شرعيتها ومكتسباتها ما بعد الثورة، وبين الحمائم الوادعة التي تخاف على ضياع كل شيء بسبب تصلب الصقور، وهذا بدا واضحا في أزمة حركة النهضة الإسلامية ما بعد اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد، وبدا واضحا في الخلاف في التعامل مع حزب النور ومخرجاته السياسية التي تحاول الاستقلالية عن عباءة الإخوان من خلال نقد سلوكيات الجماعة، وهو الأمر الذي بدا أنه خط أحمر عطفا على إقالة مستشار الرئيس مرسي وتأثيرها على التيار السلفي الغاضب.

في تونس الصراع على أشده بين الصقور والحمائم وتعنت راشد الغنوشي الذي بدا واضحا في مؤتمره الأخير وهو يعتمد على كاريزماه الشخصية لدى أتباعه، إضافة إلى تحالفات قوية مع رفاقه في المهاجر إبان رحلة المعارضة كعامر العريض وحسين الجزيري ولطفي زيتون وكلها أسماء نالت مناصب هامة، وفي المقابل فالحمائم التي يقودها الجبالي تبدي قلقها سرا وتماسكها علانية من أخطاء الصقور القاتلة وتأثيراتها على الحركة.

والحال أنه من الصعب التنبؤ بمآلات معركة الصقور والحمائم سواء داخل الإخوان أو بين حلفائهم من الإسلاميين، وفي اعتقادي أن الصقور أقرب إلى انتزاع بطولة «الربيع العربي» متى استطاعوا تقديم السلفيين كفزاعة والتحالف مجددا مع القوى المدنية، كما أن عزل «الصقور» من المشهد السياسي كما يحاول التونسيون قد يجعلهم يعودون إلى مربع العنف مجددا تحت شعار حماية «الشرعية» ونتائج الصندوق، وهو ما ينذر بحروب أهلية هذه المرة ليست مقنعة تحت شعار «المقاومة» كما قرأها حازم صاغية ذات مرة، بل تحت الجهاد من أجل تطبيق الشريعة كما يقال للأتباع أو حماية للعملية الديمقراطية كما يقال مع ابتسامة عريضة لوسائل الإعلام الغربية.

[email protected]