الحياة مع الذئاب

TT

كان لقناة «ناشونال جيوغرافيك» العربية في أبوظبي من الأثر العاطر ما كان لإنشاء «العربي» في الكويت مع نشوء الدولة المستقلة. نقلت القناة المشاهد العربي إلى التعرف على العالم الذي يعيش في جوارنا ولا نراه أو حتى نلمحه. يذكر وثائقي جميل عن الذئاب بمؤلف الشاعر صلاح عبد الصبور «قراءة جديدة لشعرنا القديم» وروحه النبيلة وشفافية النفس. في جملة ما يبحث صلاح، علاقة العربي بالذئب في البوادي الشاسعة، الخالية، متباعدة الآثار والحياة.

يداري الرجل الذئب خوفا على نفسه وعلى قطيعه ويداهنه، حتى إذا ما اطمأن الحيوان إلى الإنسان قتله. أي الإنسان طبعا. عرضت «ناشونال جيوغرافيك» ودور السينما، عشرات الأفلام، المصنعة أو الوثائقية، عن حياة الذئاب، أجملها بالنسبة إليّ «نداء البرية». وروى فيلم وثائقي قصة عالمة من السويد آنست الحياة مع الذئاب، حتى والقطيع جائع، لا يلقى في الثلوج ما يأكله. كثيرة هي الأشياء التي يتعلمها البشر من الكائنات الأخرى. وأكثرهم لا يتعلم.

وكان أهل القرى يطلقون على أبنائهم اسم «ديب»، وأحيانا «دياب» ردا للخوف من الذئاب. ورغم أن لبنان خلا تقريبا من الذئاب بسبب عشوائية الصيد وفوضى العمار (وليس العمران) فلا يزال الشبان الجدد يحملون هذا الاسم في جامعاتهم ومدارسهم، لأنهم توارثوه عن جدودهم.

وأيام الطفولة في القرية لم نر الذئب، لكننا سمعنا عواءه في الليالي الحالكة والبهمة. أو هكذا كان يقال لنا ونحن حول الموقد، لا مؤنس في الشتاء الطويل والليالي المطولة سوى دفء النار وصوت الحطب محولا إلى جمر. وبعد ذلك لا شيء سوى حكايات أمي، تقرأها من الكتب العتيقة. ومعظمها كانت قصصا للكبار وروايات عن فروسيات البادية.

فلم تكن قصص الأطفال قد وصلتنا بعد. ولم أكتشفها إلا بعدما نزلنا إلى المدينة وأنا في نحو التاسعة. لكن حكايات أمي ظلت أجمل ما سمعته طفلا وباقي العمر.

وكنا ندرك، من غير إدراك، أنها تحاول أن تطرد من حول القنديل ظلال الوحدة، ووحشة اليأس. وإذ يطلع النهار وقد صار جمر الموقد رمادا باردا، ينفتح باب الطفولة واللعب، نعود إلى عمرنا الحقيقي، نلهو بالشجر ونعدو في البرد، ونخترع ألعابا تصنعها مخيلاتنا السارحة. وإذ يعود الليل، يعود معه صوت الذئاب البعيد وتكون لحظة فائقة السعادة والغبطة، فسوف تقرأ علينا مهيبة سلامة قصة جديدة، وترفع صوتها الحنون، كي تصد حزن الأصوات الجائعة وتخفف من ظلام العتم وإلحاح الريح.