التخويف من الإسلام.. (جناية الذات).. و(جناية الغير)

TT

تكثف الحديث - في مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في القاهرة مؤخرا - على قضية (التخويف من الإسلام في الغرب بخاصة، وفي العالم بعامة).. وقد تعود المسلمون - وهي عادة فكرية رديئة - أن تنصرف أذهانهم إلى أعداء الإسلام حين يطرق هذا الموضوع.. وليس أمينا ولا مدركا لحقائق الأمور من ينفي أن للأعداء يدا طولى في التخويف من الإسلام. وفي الوقت ذاته نقول: إنه من الخيانة لله ورسوله تبرئة الذات من جناية التخويف من الإسلام والتنفير منه، والصد عن سبيله.

في هذا المقال يتركز الحديث عن (جناية الذات) هذه.. ولعل الفرصة تتهيأ - في قابل الأيام - لتناول موضوع التخويف من الإسلام على يد أعدائه.

من معتقدات الإسلام اليقينية: «إن الله جميل يحب الجمال» وأنه أنزل القرآن جميلا: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن» وأنه بعث رسولا جميلا: في خَلْقه وخُلُقه. فقد قال البراء فيما رواه البخاري ومسلم: «كان رسول الله صلى الله عيه وسلم أحسن الناس وجها وأحسن الناس خُلقا».

فالإسلام كله - من ثم - دين جمال، ودين جميل: «ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن». فلماذا تلصق بالإسلام أو يوضع في صورة مشوهة تنال من جماله أو تطفئ بهاءه؟

السبب والعلة: أن هناك (مسلمين) يجنون على دينهم هذه الجناية الخائنة بأقوال يقولونها، وبأفعال يفعلونها.

ومن أوسع مصادر هذا التشويه، ومن أغزر مواده: (الغيبوبة عن مقاصد الإسلام)، إما لغرق أو استغراق في التفاصيل والجزئيات المتناثرة.. وإما لجهل مطبق بهذه المقاصد. فإذا لم يستبن المرء هذه المقاصد، لا في بداية الطريق، ولا في أثناء المسير، فهو حري بأن يشرد ويضيع حيث لا غاية قائدة، ولا مقصد هاد.. وإما لخلط مضل متلف بين مقاصد توقيفية وصور تطبيقية - غير توقيفية - غشيها من الاعتلال والاختلال ما غشيها في التاريخ والحاضر.

ومع افتراض حسن النية، أو إعمال قاعدة حسن الظن (مع التوكيد العلمي والمنهجي على أن حسن النية لا يغني قط عن صحة المنهج)، فإن معظم الأخطاء المشوهة لصورة الإسلام تكون نتيجة للجهل بالمقاصد، أو للفهم الخاطئ لهذه المقاصد (مع الاحتفاظ بهامش أن هناك منافقين وأعداء صرحاء يتعمدون تقبيح صورة الإسلام لتنفير الناس وتخويفهم منه). وهذا مبحث جهبذ وشائك ودقيق يقتضي توضيحا إلى درجة السفور والسطوع وإرواء إلى حد التضلع.

إن الغلو من أخطر الأقوال والأفعال التي تشوه صورة الإسلام، وتقبح شخصية المسلمين في العالمين. والغلو منزع لا يتكون - فكريا وسلوكيا - إلا في دوامة (الغيبوبة) عن مقاصد الإسلام. كيف؟.. إن من مقاصد الإسلام البهية الوضيئة الجميلة:

1) بناء (سمعة طيبة) وتقديم صورة مشرقة عن (الوجود الإسلامي) إلى العالم البشري في كل بيئة وزمان، وأنه وجود رفيق معتدل رحيم:

أ) «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر».

ب) «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا».

ج) «كتب ربكم على نفسه الرحمة».

ونعيد تعريف الغلو فنقول إنه - باختصار - (مجاوزة الحد في اتباع الحق)!! وضميمة أو قيد (في اتباع الحق) أمر مهم جدا، ها هنا، ذلك أننا نتحدث عن (غلاة في الدين) لا عن (غلاة في الخروج منه).. والسؤال الناجز هو: وهل لاتباع الحق (حد)؟.. والجواب: نعم. لاتباع الحق حد لا ينبغي تجاوزه.. وهذه مجموعة من الأمثلة يأتلق بها المفهوم المراد:

أ) من الحق أن نقاتل من يقاتلنا، ولكن دون أدنى زيادة عدوان في الرد والردع: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».. فالاعتداء زيادة في حق الرد المشروع، ومن ثم فهي زيادة لا يحبها الله من حيث أنها تجاوز الحد في اتباع الحق في الدفاع عن النفس، وما لا يحبه الله باطل حابط بيقين.

ب) والدعاء حق، ولكن من الغلو الزيادة العدوانية في الدعاء، سواء كانت زيادة فاجرة ضد خصم ما، أو زيادة في التفاصيل التي تبدو وكأنها تعليم لله لما لا يعلم: تعالى عن ذلك علوا كبيرا: «ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين».

ج) من الحق أن يوصف المرء بما هو عليه، ولكن كونه على باطل - مثلا - لا يجيز للمسلم أن ينشئ زيادة يضخم بها باطله.

إن القضية كبيرة ومحفوفة بالمخاطر. ويتطلب طرقها وعلاجها مزيدا من العلم.. والنزاهة.. ودقة الحساب.. وصدق الولاء للإسلام.. والحرص البالغ على مصلحة الأمة وسمعتها. فهناك تشويه ذاتي لصورة الإسلام، أي بفعل المسلمين، وعلى أيديهم.. ومتى يقع هذا ويشتد ويتزايد؟.. يقع في ذات الحقبة التي يحدث فيها إقبال عظيم على الإسلام لأسباب كثيرة.

وإذا كنا لا نملك حمل الشانئ على الكف عن التشويه، فإننا ننبه المسلمين إلى أن التشويه الذاتي - بالغلو والعنف - يسهم في الحد من الإقبال على الإسلام.. وهذا - بلا ريب - نوع من الصد عن سبيل الله، وتعاون مع أعداء الإسلام على التخويف من الدين الإسلامي.

هذه الصورة الجميلة للوجود الإسلامي يشوهها الغلو بقلة العلم، وبالغلظة والفظاظة، وبالانحراف عن التوسط والاعتدال. فالغلو - من ثم - منزع مضاد لمقصد بناء سمعة طيبة للوجود الإسلامي على هذا الكوكب.

2) ومن مقاصد الإسلام: نفي الغلو ذاته، الغلو الذي يورط من يمارسه في الإصر والأغلال والعنت والشدة والتنطع. فلقد جاءت رسالة الإسلام وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق مقصد نفي الغلو ونسخه بإطلاق: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم».. (والإصر) - هنا - هو الضيق والحبس والاختناق والشدة.. وما كان الله - جل ثناؤه - ليبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليضع الإصر عن الذين أوتوا الكتاب من قبل، ويدع الأمة المحمدية تنوء به.. هذه الأمة التي تدعو ربها دوما: «ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به».. ولقد ثبت في صحيح مسلم إن الله قال: «قد فعلت قد فعلت»، أي استجبت لهذا الدعاء الراغب في اللطف والرحمة والتخفيف، المستجير بالله من الإصر، ومن تحميل النفس ما لا تطيق.

لكن الغلو يشوه هذا المقصد الجميل، فالغالي يند عن هذا المقصد حتى يبدو وكأنه يدعو الله بأن يحمله فوق ما يطيق، وكأنه يعاهد الله على ما لا يستطيع من الأعمال.. وهذا تشويه للصورة البهية: المنهجية والتطبيقية.

3) ومن مقاصد الإسلام: التوسط والاعتدال في كل شيء.. فليس التوسط والاعتدال: فضيلة جزئية مفردة، بل هو (القاعدة الكلية) التي شرعها الإسلام، وهدى إليها، وحض على التزامها أبدا (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)، أي استقيموا جميعا على المنهج الحق والوسط ولا تزيدوا فيه شيئا. فهذا التزيد نوع من الطغيان (ولا تطغوا) الذي هو قرين الغلو، وأحد مواليده التعساء.