خطورة ظاهرة الصراع المذهبي في العراق

TT

العراق المنهك بأثقال الأمس البعيد والقريب ويمر اليوم بأخطر دوامة لا تعرفها مدنية هذا العصر، ولا خبرة لها في أمرها، أما أولئك القادرون على فك ألغازها فقد رحلوا قبل اليوم بمئات الأعوام، حالمين بعمارة الأرض وإقامة العدل والسلام، وما أرادوا قط أن تشيع من بعدهم ثقافة تؤسس الفتنة وخراب الأوطان.

إن المذاهب بشتى ألوانها انعكاسات لحرية التعبير والرأي وإغناء المعرفة بحثا عن الحقيقة؛ لا ما انتهت إليه من رفض الآخر وسوء الظن به في أحسن الأحوال.

والداهية الكبرى أن هذه المذاهب لم تعد ساكنة في بيئتها الحقيقية وهي حجرات العلم وحوزاته؛ بل انتقلت بفعل السياسة إلى مقرات الأحزاب السياسية التي لا تتورع في تصريفها بما يحقق الغايات المنحرفة عن الصراط المستقيم كما لا يردعها شيء عن المتاجرة بالمقدسات الدينية لاعتلاء السلطة وغصبها.

ومن شر ما ارتكبوه إشراك العوام ذوي القلوب الصافية في الصراع المذهبي الذي لا شأن لهم به، ولا فقه لهم بأساسه. وكلما خرج الصراع المذهبي من حجرات العلم وحوزاته ومراكزه، وانتقل إلى الشارع؛ أي كلما ترك بيئته التي نشأ فيها، وهي العقل والمنطق، ووقع تحت تأثير العقل الجمعي الذي تحركه العاطفة الهوجاء أحيانا، تزلزلت الأرض زلزالها، ولم يعد لها من مستقر. وفي باكستان وأفغانستان والعراق (وندعو الله ألا نضيف فيما بعد مصر وتونس وغيرهما) شواهد قاطعة؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وهذا فرع من حقيقة أخرى هي أن تسييس الإسلام بعيدا عن قيمه الروحية، ومعاييره الرائعة للخلق الكريم القائمة على كرامة بني آدم، ومنظومته المعرفية الواسعة التي لم تحجر على عاقل، مآله هذا الصراع العنيف الذي نشاهده هنا وهناك بين الأخ وأخيه الإنسان، أليس في مصر وإيران، وحيث يكون البعد الديني حاكما، لا هاديا، في الصراع، قدر من هذه الحقيقة يستحق التدبر لوجه الله تعالى.

في لجة دوامة العراق هذه يثار سؤالان: أولهما، لماذا أيقظوا هذه الفتنة؟ وكيف؟

نستحضر القياس المنطقي لمعالجة السؤال الأول، حيث تكون النتيجة حتمية لمقدمتين سليمتين، فما دام الصراع المذهبي أصبح صراعا سياسيا، استخدمت فيه أدواته المعروفة ومنها القوة، غاشمة أو غير غاشمة؛ لا أدوات الصراع المذهبي الحقيقي وهو الفقه والمنطق والدليل؛ فإن النتيجة الطبيعية أن يتحول هذا الصراع إلى خنق الآخر وإقصائه قدر المستطاع، وقد صدق المفكر السياسي الذي قال «من قبيل المستحيل معالجة الصراعات القائمة على الدين». ذلك أن السياسة تسوية، وأخذ وعطاء، وهي متغيرة، ومساواة دون اعتبار لدين أو عقيدة، وهذه سمات المدنية الحديثة لن تتوفر بإطلاقها في الدين دون اصطدام؛ ولهذا لم يستطع محمد مرسي رئيس مصر إقناع القبطيين والحداثيين بسياسته؛ على الرغم من استعارته لكثير من مبادئ الحداثة والمدنية لسياسته.

وفي ضوء القاعدة العلمية التي تقول «الضغط يولد الانفجار» لا يبقى السر في المسألة الثانية، وكفتنا لجنة الشهرستاني العناء عن البحث في نوعية هذا الضغط الذي حصل فعلا؛ إذ كانت اللجنة مشغولة جدا باجتثاث آثار ما ارتكبوه من فظائع وفضائح لا إنسانية ضد أناس أبرياء أو نساء طاهرات بريئات دون بينة سوى أنهم لا ينتمون إلى طريقتهم في التعبير عن دينهم لأنهم من مذهب آخر.

ومن هنا تفجرت مشاعر الجميع براكين، واستعادوا جميعا المشاهد التي رأوها ثم تجاهلوها؛ لعل الأمر ينتهي بحكمة، حتى طفح كيلهم، وما عاد يستوعب المزيد، فتذكر أئمة السنة مما تذكروه أنهم كانوا في يوم قريب سادة في مساجدهم وأوقافهم ومدارسهم، وفي الطريق الذي يمشون باحترام، وقد تغير المشهد بشكل كبير أشعرهم بقدر كبير من الانكسار والكآبة، ومن هنا نفهم لماذا تتزاحم كلمات الغضب في خطبهم في حشود الثائرين المتظاهرين؟

أما شيوخ العشائر فقد أحسوا، حين علم الناس بما وقع وكان جبلا لا قشة، أن النخوة العربية تناديهم لإنقاذ ما أمكن؛ إذ كيف تهان النساء وهن معتقلات بريئات ورجال العشائر غاطون في نوم عميق؟

هذه قصة الانفجار السني، باختصار، في العراق كما يرويها المشهد، والحقيقة أن حكومة المالكي وهي بقيادة حزب الدعوة الشيعي الإسلامي لم تنصف الحساسية المذهبية كما هي، والحق أنها لم تستطع ذلك؛ لأنها تفقد بطبيعتها الحياد، والعراق بحاجة إلى حكومة فيدرالية ديمقراطية محايدة، لا أثر للطائفية فيها، ولن يحصل حتى يغيروا ما بأنفسهم.

قبل سقوط نظام صدام بعامين أو ثلاثة نشر شيعة لندن إعلانا عن رؤيتهم للعراق بعد التغيير، وكان فيه شيء مما نراه اليوم، وكنت آنذاك وما زلت صديقا للشيعة مذهبا. وما عاديتهم يوما، ولكني انتقدت الإعلان في حينه انتقادا موضوعيا بمقال نشرته جريدة «الزمان» اللندنية ذكرت فيه أن «العمل لإلغاء الآخر لم يعد سمة هذا العصر». وبالقدر الذي يعتبر به التشيع عريقا في أرض العراق ونسيج شعبه، يترسخ فقه أهل السنة أيضا في أرض العراق ونسيج شعبه.. ولكن يبدو أنه «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان».

* نائب كردي سابق

في البرلمان العراقي