لماذا الحوار مع النظام السوري

TT

في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2011 كتبت مقالا بعنوان: «لنكف عن القتل ونبدأ الحوار من أجل سوريا»، وذلك بعد أن استطاعت السلطة الحاكمة أن تجر الثورة السلمية في سوريا إلى المواجهة المسلحة وبدأت رقعة هذه المواجهة تزداد يوما بعد يوم. في ذلك التاريخ كانت إمكانات نجاح الحوار والوصول إلى المصالحة الوطنية أكبر بكثير من يومنا هذا، لأن درجة العنف والإجرام من قبل رجالات الطاغية لم تكن قد وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.. مئات من المجازر وكم هائل من الخراب والدمار وعشرات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والملايين من المهجرين.

مبادرة رئيس الائتلاف الوطني في صفحته الخاصة على «فيس بوك»، الأستاذ أحمد معاذ الخطيب، وما أكده في مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن حول إمكانية إجراء الحوار مع السلطة الحاكمة، يأتي في السياق نفسه الذي تطرقت إليه سابقا. معاذ الخطيب وضع شروطا واضحة من أجل بداية هذا الحوار؛ وهي إطلاق سراح 160 ألف معتقل من سجون السلطة، وتمديد جوازات سفر السوريين في الخارج. هو لم يتطرق في مبادرته هذه إلى المواجهة المسلحة التي يقودها الثوار في الداخل ضد الطاغية ورجالاته؛ بل اعتبر هذا عملا سياسيا موازيا للعمل الميداني الذي يقوم به الثوار. للوهلة الأولى، كانت المبادرة فيها شيء من المفاجأة وكانت ردة فعلي الشخصية سلبية تجاهها، ولكنني كلما تعمقت في التفكير حولها، زادت قناعتي بأنها تتضمن كثيرا من النقاط الإيجابية؛ وأهمها هو أنها تشير إلى مرونة المعارضة وإلى النضوج السياسي التي وصلت إليه، وتؤكد أنها قد اكتسبت خبرة في التكتيك والمناورة السياسية.

بهذه الخطوة وضعت المعارضة الكرة في ملعب السلطة وأحرجتها وأنهت بذلك تشدقها بأن المعارضة لا تريد الحوار. مبادرة معاذ الخطيب لم تكن جديدة على الساحة السياسية، بل هي الفكرة نفسها التي تم تداولها بعد أشهر قليلة من بداية الثورة، وكان على فاروق الشرع أن يقودها ولكن قررت السلطة آنذاك أن تأخذ منحا آخرا فعملت كل ما بوسعها لتعسكر الثورة وتجلبها إلى المربع الأمني يقينا منها بأنها ستخرج منه رابحة، وها نحن نرى الآن في أية ورطة هي وقعت. في الحقيقة، السلطة لا تريد الحوار وتخاف من الحوار كما يخاف الشيطان من المعوذات، وهي تعلم بأن الحوار سيعريها وسيكشف وجهها الديكتاتوري والإجرامي، وأن أية خطوة إصلاحية تقوم بها سيبدأ معها العد التنازلي لانهيارها لأنها مبنية على هيكل مليء بالظلم والعنف والديكتاتورية والمهازل الدستورية والقانونية.

الأستاذ معاذ الخطيب كان واضحا وصريحا عندما قال إنه ليس سياسيا، بل هو ثائر، وإنه تصرف حسب ما يمليه عليه ضميره ووجدانه. من الواضح أنه لم يرجع إلى الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني ويأخذ رأيها في ما صرح به، ولكن قراره هذا لم يأت من عبث ولم يكن ارتجاليا كما يوحي لنا في الوهلة الأولى، بل جاء بناء على ما عايشه ولمسه بنفسه من ضغوط هائلة وتقلبات سياسية كثيرة تمارسها الأنظمة العالمية على الثورة السورية. هذه الضغوط لها وجوه كثيرة؛ منها الغدر والمكر والخدعة من أطراف يدعون أنهم أصدقاء للثورة السورية وحتى منها ما وصل إلى حدود التخاذل والخيانة. هذه الضغوط كان يواجهها هو بشكل مباشر بصفته رئيسا للائتلاف الوطني السوري وبسبب قربه من المطبخ السياسي العربي والإقليمي والعالمي واطلاعه على بعض ما يدور خلف الكواليس.

إحدى الحجج التي كانت تسوقها القوى العالمية لتبرير عدم دعمها للثورة السورية هي أن المعارضة غير موحدة، على الرغم من أنها تعلم بصعوبة تحقيق ذلك.. فعندما تم تأسيس الائتلاف الوطني في اجتماع الدوحة الأخير الذي انضم إليه نحو 90% من المعارضة السورية، رحب به كثير من المعارضين السوريين المستقلين ووجدوا أن الوقت قد حان للانخراط في هذا المكون السياسي الجديد لدعم ثورة الحرية والكرامة التي يخوضها الشعب السوري. كل الذين انضموا إلى الائتلاف الوطني كان عليهم أن يعلموا منذ البداية بأن هذه الخطوة تتطلب انضباطا صارما والتزاما بالقرارات التي يصدرها الائتلاف والاستعداد لتحمل تبعاتها.

فمن البديهي وأضعف الإيمان أن يكون لكل مكونات الائتلاف صوت واحد يخاطب العالم الخارجي. هذا لا يعني أن النقاش الداخلي والتجاذب داخل الائتلاف يجب إخماده، بل عكس ذلك هو المطلوب، وهذا ما يتناسب مع روح الديمقراطية، ولكن ما يرشح إلى خارج الائتلاف يشكل رأي الأغلبية، وعلى الأقلية أن تلتزم به. على سبيل المثال، عندما كنت في الكتلة البرلمانية في حزب الخضر كانت كتلتنا منقسمة في الداخل إلى ثلاث مجموعات وكانت تتنافس فيما بينها بقوة أكثر من تنافسها مع الأحزاب الأخرى، ولكن كان رأيها المعلن للخارج هو رأي الأغلبية في داخل الكتلة.

الثورة السورية تتعرض الآن لمؤامرة كبيرة، وللأسف أعداؤها صاروا أكثر من أصدقائها، وهنالك فقط دول قليلة تتمنى النجاح لهذه الثورة، ودول إقليمية وعربية تخاف من انتصارها، والمجتمع الدولي أصبح شريكا في مأساة الشعب السوري، وكثير من الدول أصبحت تغير مواقفها، ودول أخرى تمنع وصول المساعدات المالية والعسكرية إلى الثوار. أما السلطة الحاكمة في سوريا، فهي تحصل على السلاح المتطور وعلى المليارات من دول صديقة لها.

المعارضة السورية تعيش حالة إذلال من قبل الدول التي وعدت بدعمها، وكثير من الدول الأخرى التزمت بالصمت المريب وأخذت دور المتفرج على ما يقوم به سفاح سوريا وزبانيته ضد شعب أعزل، فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن هذه الدول ترى من مصلحتها أن تبقى السلطة الطاغية مستعبدة للشعب السوري ولو كلف ذلك موت أكثر من نصف هذا الشعب. مؤتمر باريس كان مليئا بالكآبة والإحباط، وكذلك مؤتمر الكويت كان ولا يزال غامضا وغير معروف لماذا تم عقد هذا المؤتمر؛ هل هو من أجل جمع التبرعات وتسليمها لمنظمات الإغاثة التابعة للسلطة الحاكمة في سوريا، أم من أجل دعم ثورة الشعب السوري؟

مبادرة أحمد معاذ الخطيب حركت كثيرا من المياه الراكدة ودفعت القضية السورية إلى واجهة الأحداث العالمية على الرغم من التعتيم الإعلامي المفروض عليها. ما حصل في مؤتمر ميونيخ العالمي للأمن كان واضحا فيه أن الأستاذ الخطيب كان محط أنظار الإعلام العالمي ومركز اهتمام فعاليات هذا المؤتمر. معروف أن الشخصية السياسية يتم تقييمها بناء على جرأتها وحسن مبادرتها وعلى المواقف التي تتخذها. ما قام به معاذ الخطيب فيه روح المبادرة والجرأة والمسؤولية وهو يستمد قوته من الدعم الجماهيري له، وكما يقول المثل العامي «الطير يطير بريشه». إذن على كل من يقف في صف الثورة السورية أن يدعم مثل هذه المبادرات الجريئة، وأن يبتعد عن تخوين الآخرين وعن الحلول المتطرفة والمقترحات المتزمتة.

إقصاء الآخرين لا يؤدي إلى النتيجة الصحيحة ويعوق فرص نجاح الثورة السورية. السياسة هي فن الممكن، والصراع السياسي مثل الصراع الذي يتم بين ملاكمين اثنين على حلبة المصارعة؛ ففيها كذلك يمكن تحقيق الفوز على الآخر بواسطة فارق النقاط وليس فقط بالضربة القاضية.

* نائب ألماني من أصل سوري