يا ما جرى لك يا مشعل

TT

قبل ثلاثة أو أربعة أعوام لا أذكر، دخلت أحد المقاهي في مدينة دبي وبعد أن جلست بعدّة دقائق لاحظت فتاة تمر أمامي وهي تنظر مستعجلة، وما هي إلا دقيقة حتى تجمع معها ما لا يقل عن خمس فتيات، وكلهن شاخصات بأبصارهن ويتدافعن ويتضاحكن وبعضهن يصورن بتلفوناتهن المحمولة، ولا أكذب عليكم أن (الشيطان لعب بعبّي)، فقلت بيني وبين نفسي: (جاك يا مهنا ما تمنى)، وداخلني الغرور معتقدا أنهن قد (طحن بدباديبي)، فأخذت لاشعوريا أسوي من هندامي و(أرز) عنقي وأرفع من رأسي أكثر، وأرسم ابتسامة ثعلبية بريئة على محياي، متخيلا أنني جبت خبرهن، ومن سوء حظي ونتيجة لحركتي وانفعالاتي السريعة، حانت مني التفاتة عفوية للخلف فإذا بي أشاهد المطرب (محمد عبده) مع بعض أصحابه جالسين حول الطاولة التي تقع خلفي مباشرة.

ساعتها أصبت بإحباط عظيم، عندما اتضح لي أن كل جمهرة تلك الفتيات وكل تدافعهن وضحكاتهن وتصويرهن لم تكن من أجلي ولكنها كانت من أجل فنان العرب.

عندها أخذت (أتمتم) قائلا: الله يفشلكن قدر ما فشلتني، ونهضت خارجا دون أن أطلب أي شيء، وأفسحت الفتيات لي الطريق، حتى دون أن تنظر أي واحدة منهن في وجهي.

وكان من اللائق قبل خروجي أن أحيي محمد عبده فهو صديق وبيني وبينه عيش وملح، غير أن تجمهر تلك الفتيات جعلني أحس أن الجميع يشعرون بما يعتمل في صدري وكأن المسألة فيها فضيحة، مع أنه قد لا يخطر ببالهم ذلك، بل إنهم لم ينتبهوا لوجودي أصلا، ولكنني مع ذلك آثرت الهريبة.

وهذا مع الأسف هو منهجي السلبي في الحياة كلما واجهت مأزقا محرجا أو منغصا ينغص علي جلستي التي أريد أن أرتاح فيها.

وما دامت المواقف هي هكذا فدعوني إذن أجعل مقالتي هذه كلها عن الغناء والفن، وأذكر قبل عدّة أسابيع أن حضرت حفلة أو بالأحرى جلسة خاصة في قصر أحدهم، وكان يحييها أحد المطربين، وهو أقل شأنا من محمد عبده، وقيض الله ربي أن يكون بجانبي رجل (مصعفق)، أي مهذار وكثير الكلام والتصفيق والصراخ والرقص حتى وهو جالس، وهذا كله استحملته على مضض، ولكنني لم أستحمل ميالانه على كتفي وطعنه لي بكوعه الذي يشبه المخرز في خاصرتي مع كل وصلة يموّل فيها المغنّي، وعندما لاحظ برودي وصمتي صرخ بأذني قائلا: يا أخي هل أنت حجر؟! بالله عليك هل هناك أروع من الأغاني؟! فصرخت بأذنه صراخا أعلى من صراخه (زاعقا) بأعلى صوتي: نعم، إنه الصمت يا (.....).

قلت هذا ثم نهضت خارجا من القصر ومن فيه.

ولو أن صاحب القصر يقرأ كلماتي هذه الآن، فلا بد أن أشكره أولا على كرمه ولكنه يجب أن يعرف أن أذني وخاصرتي تحتاجان إلى الطبيب.

وخروجا عن هذا المضمار قليلا، فقد شعرت بالحزن عندما شاهدت تمثالا (لأم كلثوم) أقامته وزارة الثقافة السابقة في أحد ميادين مدينة المنصورة في محافظة (الدقهلية) التي تنتمي لها (الست)، وذلك تكريما لها، وكتبوا على قاعدته: (الميدان مش للخرفان) - وهم يقصدون النعاج.

وكأن أم كلثوم مجرد (نعجة) لم تطرب العرب يوما في لياليهم الكالحات.

[email protected]