لكثافة حضور «الجهاديين» من المغاربيين

TT

نعم

* لم يسعد الفرنسيون كثيرا بانتصاراتهم السريعة في مالي، حيث بدت الحرب وكأنها معركة من دون قتال، وذلك باستثناء معركة بلدة ديابالي التي كان الهدف منها انتقاميا أكثر منه عسكريا. فلقد قامت كتيبة مشتركة من «جماعة أنصار الدين والتوحيد» وتنظيم «القاعدة بالمغرب الإسلامي»، بدك حصون الجيش المالي انتقاما لمقتل عدد من الدعاة من جماعة التبليغ في التاسع من سبتمبر (أيلول) 2012، كانوا في طريقهم إلى باماكو لحضور إحدى الندوات الدعوية التي دأبت الجماعة على المشاركة فيها.

لقد دفع سعي «القاعدة» و«أنصار الدين» وراء البر بوعدهما، والثأر لدم الدعاة الذين صفاهم الجيش المالي بدم بارد، إلى التخلي عن جبهة أخرى أكثر أهمية في الاستراتيجية القتالية، هي جبهة بلدة كونا.

وجاء الفرنسيون سريعا، وأسندوا القوات المالية أو بالأحرى، قاتلوا نيابة عنها، وهو موقف لخصه ضابط فرنسي للقناة الثانية الفرنسية قائلا: «إن الجيش المالي يقاتل بحماسة، وينكفئ بحماسة بعد نصف ساعة، لنكمل نحن المهمة!». ويطرح تصريح هذا الضابط مجموعة من الأسئلة على المحللين، فهل يستطيع الفرنسيون إكمال المهمة بدلا من الجيش المالي والقوات الأفريقية المؤازرة؟ وهل فعلا خسر مقاتلو «القاعدة» وأخواتها المعركة بانسحابهم السريع من جبهات القتال؟ وهل توقف حلم «أفغانستان جديدة» جاذبة للجهاديين ممن يحلمون بإعادة إنتاج دولة على النمط الطالباني؟

لقد انسحب الجهاديون ضمن «سيناريو» كلاسيكي من مدن الشمال، الواحدة تلو الأخرى، نحو المربع الحدودي بين مالي والنيجر والجزائر وموريتانيا. وهو منطقة صحراوية تتخللها سلاسل جبلية تمتد حتى جبال العير، قرب الحدود مع ليبيا.

هذه المنطقة شكلت في الماضي قواعد خلفية لحركات التمرد العربية والطوارقية ضد دولتي مالي والنيجر. ثم هي منطقة استقطاب مثالي للجهاديين في منطقة الشمال الأفريقي، خصوصا من الموريتانيين والجزائريين والتونسيين والليبيين. فالموريتانيون يشكلون عنصرا فاعلا في تنظيم القاعدة، سواء أكان من حيث عدد المقاتلين أو القيادات الدينية التي تنظر للفكر الجهادي، واعتقلت الحكومة الموريتانية حتى الآن العشرات من المترشحين للقتال فيما يصطلح على تسميته «آزوادستان الجديدة».

ولا يختلف الوضع كثيرا في الدول الأخرى، ففي الجزائر توجد معظم القيادات العليا لـ«القاعدة في المغرب الإسلامي»، كما أن معظم قادة الكتائب هم من الجزائريين ولا تزال الصلات مستمرة بين قادة الميدان وقواعدهم الخلفية، وإلا كيف استطاع الجزائري مختار بلمختار إرسال رجاله إلى موقع عين أميناس المحصن وارتكاب مجزرة تبادل مع الجيش الجزائري مسؤوليتها. ومن الجزائر، وفي جنوبها، يشكل الفراغ وحالة انتظار الحل الذي لا يأتي لقضية الصحراء عاملا يدفع الشبان الذين تراودهم أحلام التغيير إلى الانضمام لـ«القاعدة» وأخواتها، كذلك شأن كثيرين جذبتهم حركة «التوحيد والجهاد» إلى صفوفها، وكان بعضهم من أبرز قادتها.

وعبر جبال الإيفوغاس الممتدة من مدينة كيدال، بشمال شرقي مالي حتى الجزائر يستطيع المقاتلون الطوارق الذين عاشوا في المنطقة منذ أقدم الأزمنة، ربط الصلات بإخوانهم في النيجر ودفع مزيد من الشباب إلى المواجهة التي يخوضها إياد آغ غالي القيادي البارز الذي تبنى قضاياهم الوطنية في الماضي، ويلبسها اليوم لبوسا دينيا. وعبر السلسلة الجبلية نفسها يمر الشبان الليبيون من دون المرور بنقاط المراقبة التي تضعها الحكومات، حاملين السلاح والمؤن للجماعة بعدما سهلوا لها الحصول على جزء من تركة العقيد معمر القذافي، وعملوا معها على الهجوم الدامي على القنصلية الأميركية في بنغازي في ذكرى هجمات 11 سبتمبر، بينما اعتبرته أدبياتهم ثأرا لمقتل أسامة بن لادن.

لقد سارع الفرنسيون للانسحاب سريعا من تمبكتو، المدينة التي اتخذت منها الجماعات المختلفة عاصمتها، والتي كانت مسرحا لتطبيق ما اعتبروه «حدود الله»، ولقد برر الفرنسيون الانسحاب من تمبكتو بـ«ترك المجال أمام القوات الأفريقية التي ستتولى ضبط الأمن». ولكن الاعتقاد السائد هو أن فرنسا التي اتخذت زمام المبادرة في وقف التقدم السريع للجماعات المسلحة للسيطرة على الجنوب، لا تحبذ التفريط في الإجماع الذي رافق التدخل العسكري من قبل الطبقة السياسية الفرنسية، والذي قد ينفرط عقده إن طالت الأزمة.

ويروج الفرنسيون لما يمكن لقواتهم الخاصة القيام به في جبال الإيفوغاس بدل التدخل العسكري المباشر، مستلهمين التجربة المشتركة مع الأميركيين في تتبع أسامة بن لادن في جبال تورابورا. فللفرنسيين حسابات مع أكثر من «بن لادن» واحد في شمال مالي، فـ«عبد الحميد أبو زيد»، قائد إحدى كتائب «القاعدة» يحتفظ بـ6 من رهائنهم في المنطقة ذاتها.

* صحافي وكاتب موريتاني خبير بشؤون الصحراء والساحل