ليس لتونس والجزائر والمغرب.. لكن العدوى ممكنة في ليبيا وموريتانيا

TT

لا

* عندما اندلعت الحرب في مالي يوم 10 يناير (كانون الثاني) 2013، باحتلال جهاديي شمال مالي مدينة كونا، كان صناع القرار في باماكو وباريس يخططون لرد الفعل. وكان الشعب المالي في العاصمة والجنوب والغرب ينزل في مظاهرات صاخبة تطالب السلطة والجيش بالتدخل العاجل لتحرير المدينة. ولقد شاهدت بأم عيني هذه المظاهرات، وتحدثتُ مع أطراف متعددة من المجتمع المدني المالي الذي كان يردد باستمرار: «نحن نخشى سيناريو التقسيم في السودان»، خاصة أنه اكتُشف في شمال البلاد عديد من الثروات الباطنية كالذهب واليورانيوم وحتى النفط. وعندما تحاورتُ مع اللاجئين في المخيمات، وهم خليط من مدن تمبكتو وغاو وكيدال وغيرها، وجدت المرارة والحذر في عيونهم. المرارة من طردهم من مناطقهم، والحذر من شبح الانتقام الذي يمكن أن يقوم به الجيش المالي عندما يسيطر على مدن الشمال بمساعدة الجيش الفرنسي.

إن المتأمل لشريط أحداث الحرب يستنتج أن السرعة التي تمت بها السيطرة المؤقتة على الشمال تثير التساؤل. صحيح أن مجموعات الجهاديين تطل بين الحين والآخر على معاقل غاو وكيدال، وهي تندرج في إطار حرب العصابات لا الحرب المفتوحة. ولكن لماذا لا تتحول مالي إلى أفغانستان؟

لقد دخل الإسلام مالي منذ القرن الأول الهجري عن طريق التجارة لا عن طريق الجهاد بالسيف. وعليه، لم تكن لدى معظم الماليين تقاليد القتال من أجل أفكار دينية. وعليه، ففرضية تحويل مالي إلى أفغانستان أمر مستبعد للأسباب التالية:

أولا: الموقف الشعبي في كلا البلدين مختلف، فجزء لا بأس من الشعب الأفغاني يساند طالبان بينما معظم الشعب المالي يؤيد بقوة تحرير البلاد من الجهاديين.

ثانيا: التضاريس الصحراوية تختلف عن التضاريس الجبلية، فالأولى مكشوفة للطائرات والأقمار الصناعية، وبالتالي تكون عملية ملاحقة العناصر المتشددة ممكنة، والثانية يصعب أحيانا تحديد مسالكها الوعرة.

ثالثا: الإسلام الطُرقي منتشر بكثرة في مالي، فالطريقة التيجانية تنتشر لدى 70 في المائة من السكان، والبقية تنتمي للطريقة القادرية وفرق صوفية أخرى، وهي طرق تتميز بانفتاحها وبتعايشها مع الآخر، في حين تسود في أفغانستان رؤية متشددة للدين والتدين.

رابعا: الإسلام الأفريقي بطبيعته شعبي وبسيط ولا ينخرط في الفتاوى المتشددة. ولقد شاهدتُ النساء والرجال في اختلاط دائم في المصنع والمتجر والحقل، وحتى في المقاهي الشعبية والراقية في مالي، في حين نجد المرأة في أفغانستان مطاردة في المدرسة وبعض المجالس العامة، والاختلاط بين الرجال والنساء نادر للغاية.

خامسا: الطوارق المنضوون في تنظيم «أنصار الدين» اضطروا إلى التحالف مع «القاعدة» و«حركة التوحيد والجهاد» نتيجة غياب الدولة الذي عقب انقلاب مارس (آذار) 2012، وبمجرد استرجاع أكثر مناطق شمال مالي تغيرت استراتيجيتهم وأصبحوا يطالبون بالحوار مع السلطة المركزية، في حين يُعتبر التحالف بين السكان والمقاتلين في أفغانستان تحالفا وثيقا ولا يتجه إلى الحلول الوسطى.

سادسا: تسود ظاهرة التمشرق في أفغانستان على عكس ما نجده في مالي من تأثر بالنموذج الغربي في الحديث واللباس والسلوك الاجتماعي عموما.

لكل مع هذه الأسباب يصعب القول إن مالي يمكن أن تتحول إلى أفغانستان. لكن هل يمكن أن تنتقل عدوى حرب مالي إلى دول الجوار؟

إن العدوى الممكنة تتمثل في إمكانية انتقال بعض مقاتلي «القاعدة» و«حركة التوحيد والجهاد» إلى دول الجوار بعدما أصبحوا في نظر الرأي العام المالي أجانب وتتم حاليا عملية ملاحقتهم ومطاردتهم بشكل مكثف. وعدد من الجهاديين في مالي موجودون على قائمات الموت الأميركية، كما أوردته بعض التقارير، وهم معرضون للتصفية من خلال الطائرات دون طيار.

وإذا أخذنا البلدان المغاربية نجد أن التهديد يُمكن أن يطال ليبيا وموريتانيا بدرجة أولى نظرا لضعف الإمكانيات اللوجيستية الموريتانية وللاحتقان السياسي والأمني في ليبيا. أما بالنسبة لتونس والجزائر والمغرب، فانتقال العدوى محدود نظرا لعودة التنسيق الأمني بين هذه الأقطار إلى درجته القصوى، كما أن حكام تشاد والنيجر وبوركينا فاسو شرعوا منذ فترة في إرسال جنودهم دعما للشرعية في البلاد.

إن الشعوب الأفريقية أصبحت معبأة ضد الإرهاب ولا تسمح بالمقايضة على أمنها، لكن كثيرا من الباحثين لا يثقون في الحلول الأمنية، بل يطالبون بتأهيل الراديكاليين الجهاديين، وانتهاج مقاربة أمنية وأخرى سياسية وآيديولوجية واجتماعية يتم فيها تشريك أهل العلم في القيام بمراجعات داخلية، والعمل على تحسين الظروف الاجتماعية لهؤلاء الجهاديين الذين ينحدر معظمهم من فئات مهمشة اقتصاديا ومحدودة ثقافيا.

إن انتقال أو عدم انتقال العدوى إلى دول الجوار مرهون بتصحيح الوضع على الميدان في شمال مالي، أي بتأمين الاستقرار وفتح حوار جدي مع سكان الشمال لتشريكهم في العملية السياسية والتنموية لمنطقتهم التي عانت عقودا من التهميش، وإقناعهم بأن العيش في ظل الدولة الواحدة خيار استراتيجي. ونجاحُ هذا الخيار يستوجب تنازلات من الطرفين وإبعاد شبح العمليات الانتقامية ضد سكان الشمال، وهو ما حذر من خطورته الخبراء منذ الأيام الأولى للتدخل العسكري. وأعتقد أن قيادة الجيش والحكومة في مالي واعية بخطورة وتداعيات هذه المسألة وستفتح تحقيقا في مثل هذه التجاوزات الفردية لأن ذلك من شروط نجاح التفاوض.

ثم إنه على الدول المجاورة لكي لا تنتقل إليها تداعيات الحرب في مالي أن تُحصن نفسها بانتهاج سياسة أكثر انفتاحا على شعوبها وأكثر عدلا في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وهذا هو الحصن الوحيد الذي يجعل الإرهاب بعيدا عن أسوارها.

وإجمالا، فإن ما نشاهده حاليا من عودة عمليات الجهاديين في غاو يدخل ضمن حرب الاستنزاف التي تنتهجها «القاعدة» حاليا، وهي حرب ستزول بزوال أسباب الاحتقان السياسي والأمني. ربما يتطلب ذلك بين 3 و4 سنوات ولكن يصعب جدا أن يعود الجهاديون و«القاعدة» في مالي إلى المربع الأول، مربع السيطرة الأمنية والسياسية.

* أكاديمي تونسي