سوريا وحديث السياسة والعنف!

TT

لا يزال تصريح رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حول استعداده للتفاوض مع مسؤولين في السلطة تتفاعل وتثير حوارات متنوعة وتساؤلات حول أسباب منح هذا المقترح تلك الأهمية مع أنه يتشابه مع مقترحات عديدة طرحت في ما مضى ومرت مرور الكرام.. هل يتعلق الأمر بخصوصية هذا الرجل وما يحوزه من صدقية في أوساط الحراك الثوري؟ أم بموقعه كرئيس لأكبر تكتل معارض؟ أم بالاشتراطات البسيطة التي طرحها وغازلت بعض معاناة الناس وما يكابدونه؟ أم يعود للتوقيت ووضوح حالة من الاستعصاء وعجز طرفي الصراع عن تحقيق تقدم عسكري نوعي وحاسم؟ أم لجديد المتغيرات الدولية التي تؤثر في مسار الثورة، وبدت اليوم كأنها تربة خصبة لاستقبال هذا النوع من الاجتهادات السياسية عساها تخترق جدار عنف مزمن صارت سوريا تُعرف به؟!

نعترف بأن النظام بممارساته الموغلة في العنف والاستفزازات الطائفية تمكن من عسكرة الثورة وتشويه وجهها الشعبي والسياسي واستجرار ردود أفعال من الطبيعة ذاتها، ومن تظهير صورة طالما روج لها عن عصابات مسلحة وقوى سلفية تسعى لأسلمة المجتمع وفرض أجندتها عليه، لكنه فشل في إحراز نتائج ذات معنى في الميدان العسكري الذي يعتبر ميدانه بامتياز، أو حتى في تعديل توازنات قوى ما فتئت تميل لصالح المعارضة، وفشل أيضا في استمالة الدول الغربية وردم أزمة الثقة التي نشأت بينه وبينها، عبر مغازلة مخاوفها من انبعاث الحالة الجهادية في سوريا، وإن كانت هذه المخاوف نجحت في تشجيعها على وقف إمداد المعارضة بالسلاح كي لا تصل إلى أيادي المتطرفين لكن من دون تراجع عن موقفها من إزاحة النظام القائم ودعم قوى التغيير والديمقراطية.

صحيح أن النظام على استعداد للمساومة على كل أمر، عدا احتكاره للسلطة، ولن يتوانى عن فعل أي شيء بما في ذلك جر البلاد كلها إلى العنف والاحتراب للاستمرار في الحكم، لكن صحيح أيضا أن طريق العنف مسدود، وأن الجميع بات يدرك أنه لا جدوى من التصعيد المتواتر للفتك والتدمير إلا توسيع مشهد الخراب والضحايا، وأنه مجرد وهم تصور إمكانية استعادة زمام المبادرة وكسر موازين القوى بعد ما يقارب العامين من تجريب أعتى أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا، وبعد التحولات التي جرت على الأرض وسيطرة المعارضة المسلحة على مناطق واسعة من البلاد، والأهم أن النظام ربما أدرك اليوم أنه استنفد كل المهل التي منحت لخياره الحربي، واستنزف حلفاءه إلى أبعد مدى، وأنه بات يقف وجها لوجه أمام مصالح لا تتعلق به بقدر ما تتعلق بحلفائه وأصبح هو مكرها على تخديمها في ظل ازدياد ضعفه العسكري والاقتصادي وشدة حاجته لهم، فلم تعد مصلحة روسيا وإيران الاستمرار في رحلة استنزاف طال أمدها أو الغرق في أتون حرب أهلية واسعة قد تحرق الأخضر واليابس، كما أن خيار الحفاظ على بعض النفوذ في جزء من البلاد عبر مشروع الدويلات أو الكانتونات هو خيار مكلف وغير قابل للحياة سياسيا وعمليا.

في المقابل حققت المعارضة حضورا متميزا في البلاد، وباتت رقما صعبا يصعب تجاوزه، لكنها خسرت رهانها على تحقيق انتصار سريع يقرب المسار السوري مما حصل في ليبيا أو اليمن، ولم يثمر التعويل على التدخل العربي والدولي إلا الخيبة، لا حظر جوي ولا منطقة عازلة، ولا خطة طريق أممية تعالج تفاقم الوضع السوري وتضعه على سكة الحل السياسي، ولا مد للمعارضة بسلاح متطور يمكنه تحقيق تحول نوعي في مسار المعارك الدائرة.

لقد انتظرت قوى الثورة تنفيذ وعود أصدقائها لتتمكن بأقل الآلام من تحقيق أهدافها في التغيير، وصرفت وقتا وهي تبرر لواشنطن ترددها لانشغالها بالانتخابات الرئاسية، وعولت على استمرار أوباما وأن ذلك سيحرره من تبعات كثيرة ويشجعه على وضع دعوته لمعالجة الحالة السورية على نار حامية، لكن الرياح الأميركية جرت بغير ما تشتهي سفن المعارضة، وبات واضحا للجميع أن واشنطن، ومن ورائها سياسات الحلفاء والأصدقاء، تسير على المنوال ذاته في عدم التورط والاكتفاء بممارسة الضغط المرن وإدارة الأمور عن بعد، وأنها - بعيدا عن التصريحات عن أيام معدودة للنظام وتكرار المطالبة برحيله - أكثر من يسعى نحو تسوية سياسية، ولا تخرج عن هذا السياق تصريحات أوباما في خطابه الأخير عن أحوال الاتحاد بأنه مستمر في دعم المعارضة السورية ومطلبها في التغيير الديمقراطي.

كل ما سبق هو تمهيد لفترة جديدة سيتلون خلالها الصراع الدامي بكثير من المقترحات والمبادرات السياسية، يرجح أن تتوسل رعاية أممية لإخماد هذه البؤرة، ربما مع وصول طرفي الصراع إلى حالة من الضعف والإنهاك ترغمهما على قبول ما يعرض عليهما، وإلى قناعة بأن استمرار حربهما صار أمرا عبثيا.

والجديد أن السوريين بدأوا يلمسون أن المعارضة، بمقترحاتها واجتهاداتها السياسية، وأيا تكن التحفظات والاعتراضات عليها، هي صاحبة المسؤولية الوطنية والحريصة على المجتمع ككل، بينما يدل المشهد المتمم على أنانية سلطوية مفرطة وعلى استرخاء دولي مخز يسترخص دماء السوريين وتضحياتهم، ولا يغير هذه الحقيقة الإدانات الصاخبة للعنف المفرط، أو زيادة حجم المعونات المخصصة للاجئين السوريين، لأنها أشبه برفع عتب يخفي العجز الأممي المشين عن أداء واجبه الإنساني.

إن تأكيد الحرص والمسؤولية الوطنية يتطلب بداهة تجاوز الاجتهادات الفردية، وأن تضع المعارضة على اختلاف أطيافها تصورا سياسيا جامعا يرسم دورها في إدارة الثورة حتى تحقيق أهدافها القصوى، يبدأ بعدم الاقتصار على طلب السلاح وتشجيع الحسم العسكري، مرورا بنشر ثقافة تنبذ العنف والإكراه، وبذل جهود جادة لمنع التعديات، ولجم بعض الجماعات المسلحة لتكف عن استعراض القوة والتباهي بمنطق الغلبة والانتقام والتحشيد الطائفي، وانتهاء بإطلاق المبادرات لإعادة الوجه السياسي والمدني للثورة، ولتنظيم حياة الناس وتقاسم شح الإمكانيات المعيشية، واضعة في حسبانها فكرة بسيطة بأن الثورة هي من سيرث هذه الأرض.