مع الأخذ في الحساب الأسباب التالية فإن مالي ليست أفغانستان جديدة

TT

لا

* عندما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب ضد طالبان بعد إهدار كرامتها والمس بكبريائها في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإنها خاضت معركتها ضد «عدو مجهول» يعيش بين فيافي الجبال الوعرة الأفغانية حيث يتعاظم الشعور بالكراهية لشعب ذاق ويلات الحروب وخرج مُنهكا.

في هذه الأجواء جاءت العمليات العسكرية الأميركية بشكل هائج أرعن، وبلا سقف زمني محدد. ولذلك لا تزال التداعيات تتوالى لأفق غير واضح النهايات. أما في حالة الحرب الفرنسية ضد الجماعات الإرهابية في شمال مالي، فسرعان ما أعلنت الدبلوماسية الفرنسية مدعومة بماكينتها الحربية المنتصرة جزئيا أن شهر مارس (آذار) المقبل سيشهد بداية سحب الجنود الفرنسيين، ولكنها لن تكون في كل الأحوال نهاية النهايات؟

ما هي الاختلافات في إعلان الحرب في الحالتين على مالي وأفغانستان؟ وهل يمكن الجزم بأفغنة الحالة المالية؟

تشير المعطيات الجيو - سياسية، مدعومة بوقائع التاريخ وتجارب الماضي، إلى أن مالي لن تكون أفغانستان، وهو الطرح الذي نتبناه في هذه المقاربة مدعوما بعدد من المؤشرات التي نراها مهمة لفهم سيناريوهات مستقبل المنطقة.

أولا، في الجوار الأفغاني الممتد بين الجبال الوعرة، حيث مرتفعات جبال الهندوكوش ووعور تورابورا، تتوافر بيئة حاضنة للعمليات المسلحة ولكل اتجاهات الإسلام الراديكالي. وهي حقائق تتعزز بحكم العلاقات التاريخية والظروف المنشئة لطالبان الأفغانية وطالبان الباكستانية. ولعل المتتبع لتاريخ نشوء طالبان يتعزز لديه اليقين بوجود بيئة قبلية دعمت هذا التوجه، بدءا من إنشاء مكاتب لدعم التيارات الجهادية في بيشاور وصولا لتأسيس مختلف مكاتب التنسيق. فالجماعات الجهادية الأفغانية امتلكت، تاريخيا ولوجيستيا، القدرة على المبادرة والاحترافية في صناعة الموت وصناعة الملالي بدءا من القيادي السابق الملا عمر، وانتهاءً بالظواهري وبن لادن وغيرهم من القادة الأفغان العرب. أما الساحة الأفريقية المالية، فقد ظلت على الدوام فضاء لنمط من الإسلام المسالم، والمتصالح مع الأعراق والقبائل العربية والطوارقية في دول الساحل منذ آلاف السنين، حيث جرى تأسيس المنارات العلمية الإسلامية في تمبكتو وبعض دول الساحل. والشواهد التاريخية أكبر ناطق على حضارة حاول دعاة الجهل من الوافدين الجهاديين تدمير بعضها.

ثانيا، في أفغانستان يتمترس الجهاديون خلف طبيعة جبلية وعرة، تناصرهم في القتال وتمكنهم من مناورة طويلة الأجل، بينما في ساحل الأزمات الأفريقي طبيعة صحراوية رملية تغالب حاملي السلاح وتقهرهم. إن الحالة الجغرافية الأفغانية شكلت على الدوام عنصر قهر للغزاة القدماء والجدد، وفيها انتعشت جميع أنواع الاتجار بالمخدرات والقنب الهندي والأفيون بالإضافة إلى تجارة السلاح. ولذلك تنامى تعداد أعيان الحرب وأرباب السلاح ممن يمتلكون هامشا لإطالة عمر الأزمة، وهو مؤشر يعززه معطى واضح تمثل في قتل بن لادن الذي لم تتمكن أميركا من الظفر به إلا بعد أكثر من 10 سنوات من حرب استنزاف، مدججة بكل أنواع المناظير الليلية المتطورة، ومتساوقا مع دبلوماسية أميركية اختلطت فيها مبادئ شراء الذمم بانتهاك سيادة وحرمة الدول.

ثالثا، يمكن الجزم بأن المحيط الإقليمي عامل مرجح للخروج الفرنسي من المستنقع المالي، بأقل الخسائر مقارنة مع وضع أميركا في أفغانستان. ففرنسا تقاتل مدعومة بشرعية دولية ممثلة في القرار 2085، وهي تبحث عن عودة قوية لدبلوماسية «فرنسا - أفريقيا» التي شكلت على الدوام دعامتها الاستراتيجية في رؤيتها لأفريقيا. وهي فوق كل ذلك فهمت أفريقيا وخبرتها لعقود استعمارية. ولذلك فالناظر إليها يوقن أنها خرجت من الباب مكرهة، وعادت من النافذة المشرعة مرحبا بها. ولقد ساهم في دعم الموقف الفرنسي الدعم الأفريقي لدول «إيكواس» والتعاون الاستخباراتي الإقليمي، سواء من دول اكتوت بنيران الإرهاب كالجزائر أو من الدول المحيطة بمالي. وبناء على هذا الملمح ترى فرنسا في موقفها العسكري دعما للسلم والتنمية في دول أفريقيا، وركيزة للعودة لفضاء جيواستراتيجي لا تقبل التفاوض بشأنه أو المساومة عليه. وفي الزاوية الأخرى، تبدو أميركا محشورة في أفق ضيق. فلا هي استطاعت القضاء على الإرهاب على الرغم من قطفها أكبر خصومها قبل سنة، ولا هي استطاعت تبني مقاربة أمنية في أفغانستان تمكن هذه الدولة من الخروج من أعلى درجات الفساد والفشل الدولي.

رابعا، في مالي تبدو الجماعات الجهادية مختلفة الألوان والمشارب، قليلة العدد وضعيفة الخبرة، سرعان ما خاضت اقتتالا داخليا سواء أكانت الحالة بين «جماعة أنصار الدين» أو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، أو غيرها من التنظيمات الأزوادية الأصولية، وهو عنصر عجل في الانتصار الفرنسي العسكري. أما في أفغانستان فتربط القبائل المسلحة أواصر المصاهرة، ولم تعرف الاقتتال الداخلي، بل إن العدو الخارجي شكل على الدوام ضمانة لتوحدها.

وخامسا، في الحالة الأفغانية لم تقدم أميركا أي وصفة ناجعة لعلاج شعب طحنه الفقر والإرهاب، إلا وصفة وحيدة تقوم على ضمان استمرار وكيلها الأمين وحامل جنسيتها الرئيس حميد كرزاي على هرم الدولة الأفغانية. أما في الحالة المالية، فنرى الرايات الفرنسية وهي تُرفع ويُقبل العلم الفرنسي في القرى والمدن، وهو ملمح جدير بالملاحظة والتأمل.

إن فرنسا ستربح المعركة.. مع أنها قد لا تربح الحرب فأمامها الكثير

* أكاديمي وباحث جزائري