ربيع عربي أم فصل في الجحيم؟

TT

أولا فصل في الجحيم يدل على ذلك الديوان العبقري الشهير الذي تمخض عنه آرثر رامبو بعد معاناة هائلة. ولكنه يشير أيضا إلى معاناة أخرى جماعية تحصل في هذه اللحظة بالذات. وأقصد بها معاناة الشعب السوري الذي أصبح مشردا بمئات الآلاف بلا مأوى ولا بطانيات في عز الشتاء القارس. أليس هذا فصلا في الجحيم أيضا؟ ماذا رأى هذا الشعب من الربيع حتى الآن؟ أحيانا يتساءل المرء: هل ثمن الحرية غالٍ إلى هذا الحد؟

على أي حال بقدر ما كان المثقفون العرب والفرنسيون يحتفلون بالربيع العربي إبان انطلاقته الأولى قبل سنتين بقدر ما أصبحوا يتشاءمون به الآن. في رأيي أن التفاؤل كان مفرطا وكذلك التشاؤم. الساذجون أو المغفلون هم وحدهم الذين كانوا يعتقدون بأن الأوضاع العربية ستتغير نحو الأحسن بسرعة البرق أو بضربة عصا سحرية. أما بعيدو النظر أو المطلعون على حقائق الأمور فكانوا يعرفون أنها قد تعود إلى الوراء في المرحلة الأولى بدلا من أن تتقدم إلى الأمام. ربما كان هناك استثناء واحد على هذا الأمر هو حالة ليبيا. فهنا يوجد تحسن ملحوظ أو انفراجة إنسانية وسيكولوجية مؤكدة. هنا يتنفس التاريخ الصعداء بعد كابوس طويل، طويل. أقول ذلك على الرغم من كل المشكلات التي تعاني منها البلاد في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة. والسبب هو أن القذافي على عكس مبارك مثلا كان طاغية مثل صدام وليس فقط ديكتاتورا. ومعلوم أن هناك فرقا في الدرجة وربما في النوعية بين الطاغية والديكتاتور.

وعلى ذكر الاستبداد ينبغي العلم بأن فلاسفة التنوير كانوا يفضلون المستبد المستنير على المستبد الظلامي: أي فريدريك الكبير ملك بروسيا (راعي مفكري التنوير وصديق فولتير) على لويس الخامس عشر ملك فرنسا. ومعلوم أنه طرد فولتير من فرنسا بل وهمّ بالبطش به عندما تلفظ في مجلسه الخاص بهذه العبارة: «ألا يوجد أحد يسكت هذا الرجل»؟ وهي كلمة مرعبة إذ تصدر عن ملك فرنسا الجبار. إنها إيعاز ضمني بالاغتيال. على الأقل في زمن الرئيس السابق حسني مبارك عندما كان «المجلس الأعلى للثقافة» يدعونا لحضور ندوة الترجمة الكبرى كل عام فإننا كنا نتمتع بهامش كبير من الحرية. كانت المناقشات الفكرية تندلع على مصراعيها بلا رقيب ولا حسيب بين مثقفي المغرب والمشرق بل وحتى الضيوف الأجانب. وكان ذلك يحصل في عدة قاعات دفعة واحدة. كل مشكلات الثقافة العربية وهموم الترجمة وحوار العرب والغرب كانت تطرح بعمق في تلك اللقاءات.

من هذه الناحية فإن الديكتاتورية الدينية أخطر بكثير من الديكتاتورية العسكرية. فالأولى تهدد بشكل مباشر حرية التفكير وحرية الكلام والتعبير على حد سواء. وهما متلازمتان. بل إن أول شيء تبتدئ به هو تهديد هذه الحرية. ومعلوم أنها أعز الحريات وأغلاها لأنها تشرط كل الحريات الأخرى. انظر خوف المفكرين المصريين والعرب حاليا. انظر هلع الممثلات والفنانين على وجه الخصوص. بمعنى آخر فإنها تقمع الضمير من الداخل: أي أعز ما وهبه الله للإنسان. من هذه الناحية فنحن نشهد حاليا ثورة مضادة بكل ما للكلمة من معنى. نشهد عودة إلى الوراء لا قفزة إلى الأمام. ولكن (وهنا تكمن الأطروحة الأساسية التي أنطلق منها لتفسير الربيع العربي) كيف يمكن تجاوز اللحظة الظلامية دون المرور بها؟ لقد كانت تهيمن على وعي الجماهير الشعبية من أقصاها إلى أقصاها كوعد مقدس لم يتحقق بعد. كانت محاطة بهالة من القداسات والأسرار. وكان الناس يعتقدون أن كل مشكلاتهم ستنحل بمجرد وصول هؤلاء المتشددين إلى السلطة. كانوا يعتبرونهم فوق البشر لأنهم يتجلببون بمسوح الدين ويستخدمون معجمه التقليدي المقدس المفهوم من قبل الشعب مباشرة. أين منه رطانة الحداثة وما بعد الحداثة! وبالتالي فقد لزم أن يحكم الإسلام السياسي - ولو لفاصل قصير - لكي ينكشف على وجهه الحقيقي: أي كتيار عاجز عن مواجهة مشكلات الألفية الثالثة. الخميني كان يفتخر بأنه يريد إعادة إيران إلى القرون الوسطى، وقد أعادها. ولكنه فاشل لا محالة لأن فقه العصور الوسطى لا يصلح للعصور الحديثة. إنه يحكم الناس باسم تفسير ظلامي للإسلام لا تفسير عقلاني مستنير. وهو تفسير شكلاني، حرفي، سطحي، يتمسك بقشور الدين مهملا جوهره العميق ومقاصده الحقيقية. ولكن كيف يمكن أن ينكشف للناس كل ذلك قبل أن يحصل واقعا ويتحقق أمام أعينهم؟ كيف يمكن أن ينهار أكبر وهم جبار في تاريخنا قبل أن ينتقل من المعارضة إلى السلطة ويجرب نفسه أو يأخذنا كحقل تجارب؟ كيف يمكن أن تزول الهالة القدسية عن هؤلاء قبل أن يحكموا ويرتكبوا الأخطاء الفاحشة والجرائم؟ كيف يمكن أن يصدق الشعب أنهم بشر يصيبون ويخطئون؟ هكذا نلمس لمس اليد فائدة العامل السلبي في التاريخ. إنه يساعدك على تحديد مهمتك بدقة. الإسلام السياسي القروسطي، يقدم لنا الآن أكبر خدمة إذ يكشف عن إمكاناته ومحدودياته في آن معا. فلولاهم لظل هذا الفكر المتحجر القديم مسيطرا على العقول إلى أبد الآبدين. شكرا إذن للخميني وأمثاله في دول الربيع العربي! لقد ساعدونا على إدراك الإشكالية بوضوح أكثر. الآن سوف تبتدئ المعركة الحقيقية من بسم الله وحتى السلام عليكم! الآن سوف ندخل في صلب الموضوع بعد أن كنا نثرثر فوق الأساطيح بشكل مجاني، نحن المثقفين العرب. الآن سوف يجبر المثقف العربي على النزول إلى أعماق أعماقه لكي يواجه مشكلاته العالقة منذ قرون. وبدلا من أن يتهم كل واحد منا الآخر بالطائفية ليحاول أن يفكك طائفيته الخاصة بالذات. أكاد أقول: جاء زمن التفكيك! أقصد التفكيك الفلسفي العميق للانغلاقات التعصبية الراسخة. من دون ذلك لا حل ولا خلاص. لم تعد تجدي عمليات اللف والدوران والقفز فوق المشكلات كما كنا نفعل طيلة عقود وعقود. انتهى عهد المراهقات الفكرية، والآيديولوجيات اليسارية السطحية. الآن سوف تبتدئ عملية تفكيك الانغلاقات التراثية المتراكمة فوق بعضها البعض منذ ألف سنة لكيلا يخرج علينا خميني جديد في كل مرة. الآن سوف نكتشف أن الجهاد الأكبر أصعب بألف مرة من الجهاد الأصغر. ذلك أن «المعركة مع الذات أخطر من معارك الرجال» كما يقول آرثر رامبو. وربما ابتدأت أول خطوة نحو الخروج من السجن اللاهوتي التكفيري الكبير الذي تجرأ سبينوزا وبقية فلاسفة التنوير على تفكيكه فيما يخص الانغلاق التكفيري اليهودي - المسيحي. ولكن فيما يخصنا لم يتجرأ عليه أي مثقف مسلم حتى الآن باستثناء محمد أركون. فهنيئا لمن يعيش لكي يشهد ذلك الحدث - الزلزال، ذلك اليوم الموعود!