وداعا محمود سالم

TT

إلهام الفكر مسألة في غاية التعقيد، وخصوصا على مستوى الأطفال، وهي مسألة لم يتقنها ويحسنها إلا القلة القليلة. وعلى مستوى العالم العربي كان اسم محمود سالم الأكثر تميزا.

رحل بالأمس محمود سالم، المؤلف والمثقف المصري، عن عمر تجاوز الـ84 عاما، كانت مليئة بالفصول المثيرة والأحداث والإنجازات. كان محمود سالم معروفا بأنه مؤلف «الألغاز»، وتحديدا المجموعة التي عرفت بالمغامرين الخمسة، وأبطالها «تختخ» و«محب» و«عاطف» و«ونوسة» و«لوزة»، والمفتش سامي والشاويش «فرقع»، والكلب «زنجر»، وهي كلها شخصيات أثرت على مخيلات أجيال من الأطفال العرب من المحيط إلى الخليج، وباتوا جميعا «يعيشون» الأحداث في ضاحية المعادي الأنيقة بالقاهرة - موقع معظم الأحداث، وكان أسلوب الرجل ساحرا وجميلا وسلسا، ساهم بشكل واضح ومباشر في غرس محبة القراءة في نفوس الآلاف بشكل مبسط ومشوق.

وكانت هذه المجموعة التي تصدر بشكل شهري من قبل «دار المعارف» العريقة بمثابة نموذج مبسط للكتب الأكثر مبيعا، واستمر دورانها من جيل إلى جيل تباع على أرفف المكتبات وعلى قارعة الطريق، وتورث من جيل إلى جيل. وتحولت هذه الألغاز إلى مشروع مسلسل تلفزيوني، باء بالفشل لأن الرؤية التلفزيونية كانت قاصرة جدا أمام الخيال الواسع والخصب الذي وفرته تلك الألغاز المشوقة، وكان محمود سالم متأثرا بشدة بالكاتبة البريطانية العملاقة أيندبلايتون التي قدمت للعالم هي الأخرى «ألغازها» للأطفال وكانت سلسلة ذائعة الصيت، ولا تزال تلقى القبول وتحقق المبيعات المحترمة.

وقام محمود سالم بعد ذلك بتقديم مجموعة الشياطين الثلاثة عشر، وهي فكرة متأثرة بالحلم العربي وقومية الطرح السياسي. والفكرة عبارة عن مجموعة من الشباب العربي من ثلاث عشرة دولة يتحدون لحل الألغاز ومواجهة الأعداء، يقودهم شخصية غامضة هي «الرقم صفر». والمجموعة موجهة للمراهقين، فلغتها متطورة أكثر وأغزر ومتأثرة بأفلام العميل السري البريطاني جيمس بوند وأمثالها، ولاقت هي الأخرى نجاحا كبيرا، وقامت إحدى شركات الإنتاج بتقديمها على الشاشة الكبيرة، ولقي الفيلم نجاحا محدودا.

محمود سالم كشخصية كان من المثقفين الاستثنائيين وقارئا نهما، وفي مجلسه كان دوما ما يوجد الطيب صالح الروائي السوداني العبقري، ورجاء النقاش المثقف المصري العتيد، وأعداد غير قليلة من الكتاب والمؤلفين مختلفي المشارب. ترأس الرجل في فترة من حياته تحرير مجلة «الإذاعة والتلفزيون»، وأبلى فيها بلاء حسنا، ولكنه استمر ككاتب رئيس للألغاز، مع وجوده المستمر في أكثر من عمود صحافي ككاتب معلق على الأحداث فيها، كان عاشقا لجمال عبد الناصر ومتأثرا بفكره وقوميته، واضعا صورة ضخمة للرجل في وسط صالون منزله، في إشارة واضحة لضيوفه عن موقفه السياسي.

كان محمود سالم متأثرا بالفكر اليساري بشدة، قارئا نهما للرواية الروسية، عاشقا لتشيخوف وتولستوي، ومغرما في ذات الوقت بغابرييل ماركيز، ولكن كان عشقه العربي في الأساس للرواية القصيرة وعبقرية الدكتور يوسف إدريس فيها. كان صاحب نكتة لاذعة وخفة دم استثنائية، لديه قدرة على السخرية من كل شيء بأقل الكلمات وأقصر المعاني، كان يعتبر ذلك خفة دم المفكر، وأن تضحك من عقلك لا من بطنك فقط. ولد بالإسكندرية وكان عاشقا لها، فكانت دوما هي استراحة المفكر عنده ومصدر الإلهام له بشكل متواصل.

ورث جينات الفن والأدب لأولاده، فنجله الأكبر أشرف مخرج تلفزيوني معروف، ونجله الثالث أحمد مدير تصوير تلفزيوني معروف هو الآخر، نجله الثاني أكرم تفرغ للتجارة، والأصغر أدهم في البحرين في عالم مليء بالألعاب الإلكترونية والهواتف الذكية والشاشات التي لا نهاية لها. تعرف أجيال كثيرة معنى أن تسبح بخيالك بعيدا بين دفتي كتاب جميل يثير فضولك ويفتح آفاق التأمل، وهي مسألة أصبحت بعيدة المنال اليوم تماما عن أجيال كثيرة.

رحم الله محمود سالم فقد أمتع الكثيرين ببراءة جميلة.

[email protected]