على الخط الأول

TT

قبل عام قتلت في سوريا مراسلة الـ«صنداي تايمز» ماري كولفن التي أمضت حياتها المهنية تغطي حرائق الشرق الأوسط وحروبه وجثثه من شهداء وإرهابيين وعملاء وأفغان عرب وسائر التسميات التي تفصل بين الموتى. كما يفصل الحقد والجهل والكره والثأر بين الأحياء.

بذكاء، انتقت كولفن لنفسها مهنة لا بطالة فيها: منطقة تحيا على إيقاع القتل وحضارة الموت. ومن خبرة جدودها تعرف أن الحروب تتوالد في هذه البقاع من تلقاء نفسها، من دون الحاجة إلى سبب. مرة من أجل حصان وفرس. ومرة من أجل هزيمة في ملعب كرة. ومرة بسبب خلاف على موعد ومكان الولادة.

يعطى الموت والخراب والدمار أسماء أخرى، شعرية في غالب الأحوال. وكانت تعرف من جدودها أن الاستعمار وحده قادر على توحيد الشباب، ولذا يكرهونه ويشتمونه كل يوم. كما كانت تعرف أن المرحلة الوحدوية الأطول عمرا، كانت اتفاق سايكس - بيكو، ولذلك أيضا كانوا يشتمونه كل يوم، من خلال اللاوعي الفرويدي. كانوا جميعا يريدون ما يحدث الآن.

صدرت الآن رسائل كولفن تحت عنوان «على الخط الأمامي»، من 1987 على الجبهة العراقية - الإيرانية إلى 19 فبراير (شباط) 2012 في حمص. ومن كتب التاريخ كانت تعرف أن جميع حروب العرب تقع دوما في الطريق إلى فلسطين لكن ليس فيها. وقعت مرة في عمان. ومرة في بيروت. ومرة في الكويت. وبين القذافي ومصر. وبين السودان ومصر في حلايب. ووقعت في مظاهرات كل مدينة عربية. ولا مرة في فلسطين.

اعتادت ماري كولفن مثل أجدادها من المراسلين لغة العرب: كل إعلان عن وحدة تتبعه حرب للانفصال. كل كلام عن علاقات شقيقة يبطن نزاعا تعني الدم. كل خطاب رئاسي عن عدم الرغبة في التمديد يعني البقاء إلى الأبد، على أن يلحقه وريث الأبد.. إلى الأبد. لذلك اختارت ماري كولفن أن تكتب عن الحقيقة الوحيدة على الجبهات: الناس والضحايا والعذاب والبؤس. الباقي أكاذيب. حولت الشرائط التي نقرأها على الشاشات إلى أسماء وأطفال وأيتام وأرامل وصواريخ تنفجر في طالبي الأرغفة أو في الممثلين العائدين إلى بيوتهم. آخر رسائل ماري كولفن من حمص كانت عن أم صبية فقدت زوجها وشقيقها في انفجار واحد. كانا ذاهبين إلى الفرن نفسه. وبعد يوم واحد فقدت بيتها. هي وجارتها وبقية أولاد الحارة، كانت لهم أسماء، ولم يكونوا مجرد عدد يومي. وكان لهم أحباء وأصدقاء ومنازل وأمل ومدارس ورفاق. ولم يعد لهم شيء سوى انتظار الموعد التالي للخطاب ضد سايكس - بيكو.