تدق الأجراس.. حينما يصبح الفساد مبدأ

TT

من المهم استرجاع هذا الموقف. قبل نحو عامين، كنت من ضمن 60 مشاركا في ورشة عمل أقامتها كلية كيندي للأعمال بجامعة هارفارد الأميركية عن القيادة في القرن الواحد والعشرين والتعامل مع الفوضى والتحديات. البروفسور الطاعن في السن كان جريئا، يحرج الحقيقة من شدة شفافيته. تحدث عن الفساد وضرب مثالا بدولة نيجيريا قائلا: إن الفساد فيها تحول من حادثة، إلى ظاهرة، ثم إلى مبدأ.

من سوء الحظ أن أحد الحاضرين كان نيجيريا، بل وزعيم قبيلة، قدم نفسه في أول يوم بكثير من التباهي والغرور، وحينما سمع ما سمع من البروفسور غضب لنفسه. البروفسور استوقفه قبل أن يكمل دفاعه قائلا له «إن كنت مشككا فيما أقول أمهلني 5 دقائق أذهب إلى مكتبي وأعود إليك بملف فيه حقائق أكثر قسوة مما سمعت». ابتلع الرجل الصدمة وسكت.

في آخر يوم لورشة العمل وقف البروفسور يسأل الجميع عن أكثر ما لفت انتباهنا خلال أيام الورشة، الكل تقريبا ذكر موقفه مع الزميل النيجيري، وحينما سألني أجبته ساخرة «ربطة عنقك كانت أكثر ما لفت انتباهي»، وقد كانت فعلا غريبة.

قد يكون تعامل البروفسور مع المشارك الضيف فيه الكثير من الفظاظة وسوء التهذيب، ولكن ما ذكره حقيقة لا مراء فيها.

حينما يصبح الفساد مبدأ في أي مجتمع، فهذا يعني أنه مر بكل مراحل تكوينه؛ بداية حينما كان مجرد خطأ يستنفر غضب الناس وسلوكا مستهجنا يرفضونه بصوت واحد. ثم انتقل إلى مرحلة التكرار، لتعتاد سماعه الأذن، فيقل الحماس لرفضه بسبب الملل من ترديد الكلام. وفي المرحلة الأخيرة يصبح الفساد ذا ممارسة علنية، لا يختبئ ولا يهمس، لأن ثلث الناس فاسدون، وثلثهم الآخر ضاعت لديهم معايير الفساد، والثلث الأخير ضجروا من محاربته. وإلا من كان يصدق، أن منظمة تسترخص حياة الناس لتنفيذ أجندتها كتنظيم القاعدة، قد نجد بيننا اليوم من يدافع عن مبادئها في العلن، ليس في الغرف المغلقة كما يتوقع، بل بجرأة المجاهرة.

في مواقع التواصل الاجتماعي أصوات كثيرة ترتفع لتبرير السلوك العدواني وتلميع نوايا أصحابه، ولم يكن ليجرؤ هؤلاء على مثل هذا التصريح العلني قبل خمسة أعوام، فقد كنا نقرأ لهم تحت أسماء مستعارة في مواقع إلكترونية مشبوهة، لكنهم اليوم انفلتوا وأصبحوا جزءا منا. انتقلت الجريمة من الظلام إلى النور لأن أصحابها شعروا بوهن القيم المجتمعية وأمنوا بأن الحواجز القديمة انخفض سقفها. الجماعات المسلحة التي تتمترس بأجساد الأبرياء لتصل إلى أهدافها، لا تعبر عن تفشي الفساد إن هي ظلت منبوذة من المجتمع، لأنها ستبقى حدثا استثنائيا أمام قاعدة عامة من الصلاح الأخلاقي.

في حالة أخرى جديرة بالاهتمام، يتابع المجتمع السعودي انكشاف جريمة منظمة لتزوير الشهادات الأكاديمية، وقد تبنى أحد أعضاء مجلس الشورى مع أحد المبتعثين مهمة الكشف عن أسماء المزورين ومراكزهم الوظيفية. وقع المجتمع السعودي تحت تأثير الصدمة، هل يعقل أن هؤلاء الذين منحناهم الثقة والتقدير ليسوا سوى مخادعين سرقوا منا قيمة مجتمعية لا يستحقونها؟

من أهمية هذه القضية أنها جمعت جريمتين؛ التزوير والسرقة، ومن أهميتها كذلك أنها تدخل في مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الضروريات الخمس؛ الدين، النفس، العقل، المال، والعرض. ولولا المساحة المحدودة للمقال لفندت ارتباط كل واحدة من هذه الضروريات بجريمة تزوير الشهادات الأكاديمية.

شخصيا لم أجد في هذه الحقيقة المريعة صدمة، لأنني أعلم أن تزوير الأوراق الرسمية ليس حكرا على بلد أو منطقة، وأدوات علاجها معروفة. ما يقلقني أنه رغم فضح أمر المزورين، خاصة المشاهير منهم، لا يزال لهم عند الناس حظوة من التقدير والاحترام، وهو ما يجعلني أشك بأن الفساد لم يعد لرأسه تلك الشوكة التي توخز فينتبه إليها الناس.

هناك من يبرر جريمتهم تعاطفا معهم، أو يقلل من قيمة شهادة سبقتها محبة المجتمع لهم، والأسوأ أن هناك من يفند هذه الجريمة، فإن كان صاحبها قد استنفع منها ماليا فهو آثم، وإن قام بالتزوير من أجل الاستعراض الاجتماعي والمفاخرة فلا بأس، قياسا بأدوات الماكياج وتغيير لون الشعر الأشيب إلى السواد، أي أننا أمام دعوة إلى تشريع التزييف والكذب.

من الغرابة حقا أن تقييمنا للآخرين لا يتغير حتى حينما يخدعوننا، هل هذه درجة عالية من التسامح؟ هل لأننا مارسنا هواية تبرير الأفعال واختلاق الأعذار؟ أم لأننا مرتبطون عاطفيا بهؤلاء الذين تركوا أثرا خلال معرفتنا بهم؟ ربما، ولكن كل هذه نذر خطيرة مقلقة.

هذه الحالة التي نظن أنها برزت إلى السطح فجأة لها جذور ثقافية، فالطالب الذي يغش في الامتحان قد يفلت بسهولة من العقوبة، في حين أن في الغرب لا يغفر للطالب الذي يقتبس عبارة لم ينسبها لأصحابها. الحال الغالبة لدينا أن الطالب الذي يغش لا يعاقب ليس لغياب القانون الذي يجرم، بل لميل الأستاذ إلى العفو حتى قبل أن يبدأ الطالب باستعطافه، إنها مفاهيم ثقافية، فهو لا يعتقد أن سرقة إجابة سؤال ضمن عشرين سؤالا كارثة كبرى، رغم أن معاقبة الطالب ليس حقا للأستاذ ليتنازل عنه بل هو حق للجامعة والمجتمع. إنما الواقع أنه مثل وعد بلفور، عطية من لا يملك لمن لا يستحق.

لنسأل الآن السؤال الأهم: من يحمي المجتمع إن وهنت رقابته الذاتية؟

صحة المجتمع الأخلاقية هي مسؤولية القانون، وليست مسؤولية الضمير الشخصي والوازع الديني أو الأخلاقي للأفراد، وإلا لعمت الفوضى. وتطبيق القانون مسؤولية الدولة، تطبيقا لا تكون فيه معايير الإدانة رمادية اللون.

إن ارتخت دفاعات المجتمع، المتمثلة في المثقفين وصناع القرار، عن الذود عن سلامة أخلاقه، فسيأتي غدا من يوصمنا بأننا من حيث المبدأ فاسدون، ويهددنا بملفات في مكتبه، ولن نستطيع وقتها أن ننبس ببنت شفة.

[email protected]