مناورات وألاعيب دولية والمعلم روج لطبخة مسمومة

TT

كل هذه «السمسرات» والوساطات والألاعيب للتوسط بين نظام بشار الأسد والمعارضة السورية سيكون مصيرها الفشل، وهي لن تؤدي إلا إلى المزيد من إراقة دماء السوريين، وتدمير مدنهم وقراهم وتمزيق أجساد أطفالهم، فهذا النظام مصرّ على ما كان بدأه قبل نحو عامين، عندما لم يجد مدير استخباراته في درعا الحورانية ما يعالج به لعبة أطفال صغار، أثّر عليهم مشهد «الربيع العربي» العام، فكتبوا على جدران مدرستهم: «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلا تخليع أظافرهم وإهانة أولياء أمورهم بطريقة نابية على الأخلاق ومرفوضة، وفقا للأعراف السائدة في الشرق والغرب، وفي كل مكان.

فقبل أيام قليلة من بداية هذه الوساطات السرية والعلنية، التي شارك فيها عرب و«عجم» وروس وأميركيون وأوروبيون والأمم المتحدة من خلال مندوبها لهذه الأزمة الأخضر الإبراهيمي، وشاركت فيها أيضا الجامعة العربية من خلال أمينها العام نبيل العربي، قال بشار الأسد إنه منتصر لا محالة، وإن الأمور ستنتهي لمصلحته، ولقد جاء قوله هذا بعدما توقف بعض الدعم عن الجيش السوري الحر، وبعدما وصل تسويق مبادرة الشيخ معاذ الخطيب إلى ما يشبه «الشِّحذة» والاستجداء. المفترض أن الدور الروسي تجاه كل ما يجري ولا يزال يجري في سوريا بات معروفا؛ فورثة الاتحاد السوفياتي «العظيم»!! مصرّون على بقاء هذا النظام وبأي ثمن، ومصرون على إفشال انتفاضة الشعب السوري كفشل انتفاضة حماه في عام 1982، التي ساهم في إفشالها «الرفاق» في موسكو، بالسكوت على ذبح أكثر من 40 ألفا من أبناء هذه المدينة الباسلة، وترويج الكذبة نفسها التي يجري تداولها الآن من قبل «أعوان» بشار الأسد وحلفائه، القائلة إن كل ما في الأمر أن نظاما تقدميا «ممانعا ومقاوما» قد اضطر للدفاع عن نفسه ضد «عصابات إرهابية» وضد مؤامرة إمبريالية سكناجية وصهيونية.

والمفترض أيضا أن بعض العرب الذين حشروا أنوفهم في لعبة ومناورة الوساطات هذه، تحت عنوان ضرورة الإسراع بإنجاز الحل السياسي المطلوب لإنقاذ سوريا من التمزق والتشظي ومن المصير الأسود الذي بات قريبا وعلى الأبواب، يعرفون أن قرار بشار الأسد، حتى وإن هو فعلا يسعى لحل على أساس «ألا يجوع الذئب، وألا تفنى الأغنام»، وبالطبع، فإن هذا غير صحيح على الإطلاق، ليس بيده، وإنما بيد الولي الفقيه في طهران، وفي أيدي المنظومة الأمنية والعسكرية، وهي منظومة طائفية حتى النخاع الشوكي، التي كانت ولا تزال صاحبة الحول والطول، ولا قرار في سوريا إلا قرارها.

كان على هؤلاء العرب وعلى الأميركيين والأوروبيين أن يفهموا معنى أن يصف أحد أقرب المقربين من الولي الفقيه علي خامنئي سوريا، هذا البلد العربي العريق والرئيسي والاستراتيجي الذي يرفع شعار: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، بأنه المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين، وأيضا معنى أن يكون الآمر والناهي في غرفة عمليات الجيش السوري هو قائد فيلق القدس التابع لحراس الثورة الإيرانية، الجنرال قاسم سليماني، وأن تصل «الوقاحة» بجيش حزب الله اللبناني إلى أن لا يتورع عن الإعلان، وعلى رؤوس الأشهاد، عن أن قواته تقاتل حاليا في نحو 20 قرية سورية في محافظة حمص، بحجة أن سكانها ينتمون للطائفة الشيعية.

وكان على هؤلاء العرب أن يفهموا ويدركوا أيضا معنى أن يبقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يردد، منذ بداية هذا الذي يجري في سوريا، والذي اقترب موعد ذكراه الثانية، أن بشار الأسد لا يمكن أن يتنحى، وأنه لا يمكن أن يستمع ويستجيب لأي مطالبة له بالتنحي، كما أن عليهم أن يدركوا ويفهموا معنى أن يقول الأخضر الإبراهيمي ومع بدايات هذه الوساطات، التي تشبه القفز فوق الحبال المشدودة، إن الرئيس السوري أبلغه أنه مواطن سوري، وأن من حقه أن يترشح مجددا لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي من المفترض أن تجري في العام المقبل (2014).

في اليوم نفسه الذي تم فيه كشف النقاب عن اتصالات أميركية - روسية «مكثفة» لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية المتفاقمة، رافقتها تحركات من قبل بعض الذين يظنون أنهم قادرون على البقاء في المساحات الرمادية، وأنهم قادرون على الاستمرار في اتخاذ موقف اللاموقف، لجأ بشار الأسد إلى قصف بعض أحياء مدينة حلب السكنية بالصواريخ البالستية من طراز «سكود»، وذلك في حين أن المفترض أن يوقف عملياته العسكرية احتراما لأصحاب هذه الاتصالات، وكدلالة على أنه معني فعلا بأي حل يتم التوصل إليه، على أساس التنازلات المتبادلة، إنْ منْ قِبَله وإنْ منْ قِبَلِ الجيش الحر والمعارضة السورية التي غدت بموقف واحد وبقيادة موحدة.

إن كل هذه الوساطات وكل هذه الاتصالات الأميركية - الروسية من المستبعد جدا أن تكتب، ولو الحد الأدنى، من النجاح، فالرئيس السوري لديه إصرار على خوض هذه المعركة حتى النهاية، وعلى غرار ما فعله أبوه بحماه في فبراير (شباط) 1982. والإيرانيون متورطون في القتال ضد الجيش الحر والمعارضة السورية حتى ذقونهم، والروس يسعون لأخذ مكانة الاتحاد السوفياتي في المعادلة الدولية الجديدة. ولذلك فإنهم إذ يصرون على إنهاء عالم القطب الواحد، الذي هو القطب الأميركي، لحساب عالم متعدد الأقطاب، وفقا لما كان عليه الوضع في نهايات ثمانينات القرن الماضي وبدايات تسعيناته، فإنهم لا يجدون ساحة يخوضون صراعهم عليها مع الأميركيين، من أجل هذه الغاية إلا الساحة السورية.. فالآن هناك لعبة أمم جديدة، ثم إنه لم يعد هناك أي شك بأن الصراع على هذا البلد الاستراتيجي والرئيسي والمحوري قد عاد مرة أخرى، وكما كان عليه الوضع في نهايات عقد أربعينات القرن الماضي وعلى مدى عقد خمسيناته وعقد ستيناته أيضا.

لذلك، ولأنه من المستبعد جدا - بسبب كل هذا الصراع الإقليمي والدولي المحتدم على سوريا الذي استدرجه بشار الأسد استدراجا - التوصل إلى حل مقبول وتسوية معقولة لا بين الأميركيين والروس ولا بين بعض العرب و«العجم»، فإن هذا التصعيد الذي عنوانه إرسال وجبة صواريخ «سكود» الأخيرة، التي أرسلها هذا النظام، الذي غدا انتحاريا، إلى حلب، سوف يستمر ومعه سيستمر التدخل العسكري الإيراني إن مباشرة، وإن من خلال حزب الله، وسيستمر أيضا الدعم الروسي السياسي والعسكري الذي هو - في حقيقة الأمر - لم يتوقف ولا للحظة واحدة على مدى العامين الماضيين، والذي من غير المتوقع أن يتوقف، ما لم يرضخ الأميركيون للإملاءات والمطالب الروسية؛ سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا الشرقية.

وحقيقة أن هذا يستدعي أن يتخلى بعض العرب «المستنكفين» عن حياديتهم التي يحاولون الاحتماء بها من استحقاقات كل هذا الذي يجري في سوريا، وأن يدركوا أولا أن الحياد بالنسبة لأزمة كهذه الأزمة غير ممكن على الإطلاق، وثانيا أن ثمنه، أي هذا الحياد، في حال بقاء بشار الأسد وبقاء نظامه سيكون مكلفا جدا؛ فالإيرانيون الذين يخوضون هذه الحرب المحتدمة منذ البدايات، سيعتبرون أن مثل هذا البقاء انتصار، طالما بقوا ينتظرونه لتجديد هجومهم العسكري والسياسي على هذه المنطقة، ولتحقيق حلم استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية. لا يمكن أن تسفر محاولات الحل السياسي هذه بين الأميركيين والروس عن أي شيء، ويجب أن تفهم تصريحات وليد المعلم التي أدلى بها خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو على حقيقتها، وهي أنها مناورة بتخطيط روسي وتخاذل أميركي، وأن الهدف هو محاصرة المعارضة دوليا والبطش بها تحت ستار كل هذه الألاعيب التآمرية، والسعي لتثبيت بشار الأسد، وضمان التجديد له في انتخابات 2014، وإلا ما معنى كل هذا التصعيد العسكري الأخير الذي لجأ إليه النظام، والذي كان عنوانه استخدام الصواريخ البالستية.

لكن يجب أن يدرك هؤلاء المتآمرون، الذين «يشدون على أيديهم» أن هذه اللعبة مكشوفة، وأنه لا نجاح إطلاقا لهذه المؤامرة القذرة؛ فالشعب السوري الذي قدم كل هذه التضحيات الغالية والثمينة لا يمكن أن يرفع يديه استسلاما، ولا يمكن أن «يكتفي من الغنيمة بالإياب»، فالمثل يقول: «من يخطب الحسناء لا يُغله المهر»، والمؤكد أن من قطع ثلاثة أرباع الطريق سوف يواصل السير في الاتجاه ذاته، وسوف يستمر ليقطع الربع الأخير من هذا الطريق، فهذا هو ثمن الدماء التي نزفت، الذي لا ثمن غيره.