الأرض المباركة

TT

تحدثت في الأسبوع الماضي عما يحدث في مدينة القدس من تنام للمشروع الصهيوني لتهويد المدينة المباركة، أو بمعنى آخر تشويه القدس وتغيير معالمها وطمس تاريخها؛ مستغلا في ذلك الأوضاع السياسية المتأزمة في البلاد المجاورة، وأخصها مصر وسوريا ولبنان. وبعيدا عن الشأن السياسي للمنطقة الذي تسيطر عليه إسرائيل وتتحكم في أحداثه ومجريات أموره، فإن المسلمين، وخاصة العرب منهم، أصبحوا يختزلون قضية القدس في كونها مدينة محتلة ومتنازعا عليها بين شعبي إسرائيل وفلسطين! هذا الاختزال فيه تضييع لقيمة القدس.. البلد الذي احتضن الديانات السماوية الثلاث، وبارك الله في أرضها بقوله في أول سورة الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله). والمباركة هنا لها معان كثيرة، منها على سبيل المثال ما أدت إليه وسطية الموقع الجغرافي، حيث أرض فلسطين هي نقطة التقاء حضارات بلاد الشرق الأدنى القديم، وعلى رأسها الحضارة المصرية القديمة وحضارات بلاد النهرين. ليس هذا فقط، بل إن المنتجات والصناعات الأفريقية، سواء كانت لقبائل رعوية أو لحضارات بدائية، كانت تصل إلى الشمال الشرقي لآسيا عبر مصر إلى فلسطين والعكس أيضا صحيح، ولذلك عرفت أرض فلسطين بأنها سوق لمنتجات الحضارات المختلفة، وعاش على أرضها عائلات من التجار المهرة.

ونظرا لأهمية الأرض وكذلك خصوبة وجودة أراضيها، ظلت دوما ساحة لسلسلة متواصلة من الصراع بين قومين متباينين: الكنعانيين ومنهم ينحدر الفلسطينيون، والعبرانيين ومنهم يدعي يهود اليوم النسب إليهم. ويأتي الاستيطان الكنعاني أرض فلسطين قبل الاستيطان العبراني بقرون، وذلك ثابت تاريخيا وأثريا أيضا. وجاء الاستيطان العبراني عبر ثلاث محطات تاريخية مميزة؛ الأولى هجرة نبي الله إبراهيم وآل بيته من أرض العراق إلى مصر وعودته وهي هجرة محدودة الأثر الاستيطاني، والثانية هي المعروفة تاريخيا بدولة الآراميين، والثالثة وهي أهمهم جميعا فهي المعروفة باسم الخروج وتعني خروج موسى عليه السلام مع قومه من مصر. وهناك فترات ليست بالقصيرة التي عاش فيها الكنعانيون جنبا إلى جنب مع العبرانيين دون حروب، خاصة خلال فترات قوة كنعان وتماسك قبائلها، وهؤلاء هم القوم الجبارون الذين كانت اليهود تخشى بأسهم وقوتهم. وتعلم العبرانيون من الكنعانيين الزراعة والصيد في البحر وصناعة المراكب وحياة الاستقرار، وكذلك تعلموا منهم كيفية استخراج المعادن وتصنيعها.

وتظهر البركة التي وضعها المولى - عز وجل - في أرض المسجد الأقصى وما حوله في تلك التراكمات الحضارية الفريدة والمتنوعة بالمكان، الذي لا يختص بالمسلمين وحدهم، بل بالمسيحيين كذلك، وكلاهما تقوم إسرائيل بطمس معالمهما ومحاولة محو وجودهما، وذلك لفرض نفسها ولو عن طريق التزييف وخلق واقع لا أساس له، أو بمعنى أدق لم يعد له وجود من الناحية الأثرية. لا بد للعالم العربي والإسلامي والمسيحي من وضع تاريخ فلسطين بشكله الصحيح ضمن المناهج التعليمية وإبراز قيمة القدس الروحية والتاريخية والحضارية حتى لا تختزل القضية الفلسطينية في مجرد صراع بين عرب ويهود على القدس، وحتى لا تضيع قيمة القدس.