تذكير الحكيم بالبديهيات

TT

حينما اجتمع 17 مجمعا طبيا أميركيا متخصصا لمراجعة مدى ضرورة إجراء الحكماء الأطباء أنواعا مختلفة من الفحوصات والإجراءات الطبية، فإنهم لم يُفاجئوا عموم الناس بل فاجأوا الحكماء الأطباء أنفسهم بكشفهم حقيقة مفادها أن أكثر من 135 نوعا من تلك الفحوصات الطبية والإجراءات العلاجية التي تُجرى بشكل روتيني.. لا داعي لها وغالبا ما تتسبب بالضرر على المرضى، ما يفرض على الأطباء ويستوجب من المرضى مناقشة أطبائهم حول ضرورة إجرائها.

وحينما تصل تلك المجاميع الطبية إلى هذه الحقيقة، وفي أكثر أنظمة تقديم الرعاية الطبية تقدما في العالم، فإننا نتساءل وبدهشة: ما الذي يجري في مستشفيات الدول المتقدمة؟ ناهيك عن معرفة ما الذي يجري في مستشفيات المناطق النائية.

دعونا نراجع خلفيات القصة. في عام 2002 أصدر المجلس الأميركي للطب الباطني «ميثاق الطبيب» في الألفية الجديدة، وضمن ما احتواه هذا الميثاق أن على الأطباء مسؤولية تعزيز الإنصاف وتحقيق العدالة في التوزيع ضمن الخدمات الطبية في المجال الصحي وذلك عند شح الموارد المالية. وفي عام 2010 تم التوافق على أن تضع مجاميع التخصصات الصحية المختلفة مشروعا يحتوي على قائمة من خمسة عناصر مهمة top 5 lists ذات تأثيرات تغييرية لخفض الاستهلاك الطبي للموارد المالية، والهدف تحديدا هو تحقيق خفض بمقدار 5 مليارات دولار سنويا عبر العناية بالحد من الهدر المالي غير المبرر في خمسة عناصر مهمة. وتطور المشروع هذا ليصبح حملة باسم «الاختيار الحكيم» Choosing Wisely لانتقاء كل مجمع طبي متخصص للعناصر التي يتوجب مراجعتها وتأثيراتها على الإنفاق المالي. ومع بداية 2013. تضم الحملة 25 مجمعا ورابطة طبية رئيسية بالولايات المتحدة، ومع نهاية هذا العام سيلتحق 12 مجمعا علميا طبيا.

وفي فبراير (شباط) 2013 أعلنت الحملة أن ثمة 135 نصيحة طبية تستهدف طيفا واسعا من الفحوصات والإجراءات الطبية التي يجب التساؤل الجاد قبل إجرائها أو طلبها للمرضى.

ومن الأمثلة التي ذكرها تقرير الحملة، أن ثمة استخداما لا مبرر له لأنواع شتى من الفحوصات الطبية التي ليس لها تأثير إيجابي على معالجة المرضى. وأن ثمة إفراطا في إساءة الاستخدام لخدمات الأشعة التشخيصية، ولا يُقابله تحسن في معالجة المريض أو نتائج ذلك بل زيادة في تعريض المريض للأشعة بأنواعها وتأثيراتها الضارة. واستطرد التقرير في تفاصيل أخرى تتعلق بمشاركة المريض في عملية المعالجة واتخاذ قراراتها.

ومن اللافت للنظر هو ملاحظة التقرير نقطة مهمة غالبا ما تغيب عن الذهن، وهو أن النظام الصحي مبني على حصول الطبيب على المردود المادي لقاء خدمات علاجية يُقدمها، وليس بناء على معالجة تتبنى عدم إجراء الفحوصات أو الإجراءات العلاجية التي لا داعي لها. وهنا مربط الفرس في شأن جانب مهم في الخلل في أنظمة تقديم الرعاية الطبية وخاصة في المستشفيات والعيادات الخاصة غير الحكومية التي تعتمد على رفع مصادر الربح المادي بغض النظر عن أي جانب آخر.

والواقع، وكما سبق ذكره في مقالات سابقة، أن أنظمة تقديم الرعاية الطبية المعتمدة على الطرق التقليدية في العلاج بالمستشفيات لم تعد مُجدية، ولذا أمست ممارسة الطرق التقليدية عبئا لا عونا. وهو ما أدى بنا إلى إجراء حملات عالمية لتطوير الجودة وسلامة المرضى، كل همّها هو تذكير الأطباء وتذكير المرضى بأن هناك بديهيات بسيطة لا تزال غائبة عن الأذهان في خضم العمل اليومي بالمستشفيات. وإلاّ لما وصلت حملة تتبع لأكثر أنظمة تقديم الرعاية الطبية تقدما في العالم إلى نتيجة بديهية بسيطة مفادها أن على الطبيب ألا يُجري للمريض ما لا داعي له وأن على الطبيب أن لا يتسبب بالأذى للمريض.

وإلاّ أيضا، لما واصلت المستشفيات في العالم التسابق على نيل شهادات اعتماد عالمية للجودة، كل ما تطلبه من المستشفى هو إثبات أنها لا تتسبب بالأذى للمرضى وأن الطبيب يهتم بمريضه وأن إدارة المستشفى تهتم بالسلامة في منشآتها. ولكن نظرا لأن هذه البديهيات أضحت غائبة، فإن الحاجة أمست مُلحة لإعادة تذكير الأطباء والممرضات وإدارات المستشفيات أن هناك مرضى يأتون إليهم ويحتاجون إلى رعاية لائقة وأن سلامة المرضى ضرورية.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]