المساهمات العربية في الحضارة المعاصرة

TT

كثيرا ما تضج الصحف الغربية بأي هفوة يرتكبها عربي، فنجدهم مثلا ينشرون بالحروف الكبيرة «نشال عربي يسرق محفظة امرأة عجوز». ولكنني لم أرهم يقولون شيئا عندما توصل طبيب عربي في أكسفورد لفتح جديد في معالجة السرطان. لتصحيح هذا الاختلال في الميزان، فاتحتني منظمة عربية قبل سنوات لكتابة كتاب يكشف النقاب عما أسهم فيه مغتربون عرب في صرح الحضارة البريطانية المعاصرة. تحمست للموضوع الذي قبر فورا لضيق الموارد مع الأسف.

يعترف الغربيون بمساهماتنا في القرون الوسطى. ثم ينتهي الموضوع. لا أحد يشير لما قدمناه لهم الآن. وكله رغم أن أي جامعة غربية لا يشمل ملاكها الآن نفرا من كبار العلماء والمفكرين العرب. أما في ميدان الطب فحدث ولا حرج. قيل لو أن العراق فقط سحب كل أطبائه من بريطانيا لانهار مشروع الصحة القومي البريطاني كليا. ولكن المواطن العربي كالسمك، مأكول ومذموم. تماما مثل كل ما يأخذونه من ثرواتنا.

لم يجُد العراق بالأطباء فقط على بريطانيا، بل أيضا بالكثيرين ممن أصبحوا نجوما لامعة في تاريخ الحضارة البريطانية المعاصرة كالمعمارية الديم زها حديد التي أصبحت المرأة الوحيدة التي وصلت إلى هذه المنزلة في تاريخ العمارة العالمية. في دنيا السياسة، برز ناظم الزهاوي الذي لمع نجمه في البرلمان البريطاني نائبا عن حزب المحافظين. ويعتبر سامي البنا قائدا في جراحة الوجه. ومثله مازن سرسم في جراحة القلب. ومن أبرز أساتذة الاقتصاد في جامعة لندن نايل القشطيني. وفي ميادين الفنون والموسيقى برز لفيف من الفنانين العراقيين كسعاد العطار وفيصل لعيبي والعزاوي واللامي وإحسان الإمام.

وفي السنوات الأخيرة، تألق نجم هذا العالم العراقي - البريطاني البروفسور جم (جميل) الخليلي، الأستاذ في جامعة ساري. استحوذ باهتمام الجميع بما كتبه عن مساهمات العرب العلمية في نشأة علوم الغرب. وبأسلوبه البليغ والساحر أخذ مكانته المرموقة في قنوات التلفزيون والراديو بشروحه السلسة لأدق القضايا العلمية، فضلا عن كلامه عن مساهمات العرب فيها. استمعت إليه في المحاضرة القيمة التي نظمتها له رابطة الأكادميين العراقيين في المملكة المتحدة. كانت العروبية هي منطلق الخليلي في المحاضرة، فهو يرفض تسمية هذا التراث العلمي الحضارة الإسلامية لأنه كتبه علماء بالعربية وتكلموا اللغة العربية ومن منطلقات التراث العربي، كما أن المشاركين فيه لم يكونوا جميعا مسلمين. كان بينهم نصارى ويهود وصابئة وسواهم.

وفي المناقشة التي تلت المحاضرة، سألته سيدة إنجليزية، إذا كان العرب قد جادوا بكل هذا التراث فلماذا توقفوا وجمدوا؟ قال: لقد تدفق ذلك الفيض العلمي في زمن احترم فيه المسلمون حرية التفكير والتعبير. ولكن التزمت الديني المتشدد الذي ساد فيما بعد قتل روح التفكير الحر وأجهز بذلك على الرغبة في البحث والتفكير والاكتشاف، فماتت العلوم العربية. راحوا يقولون كل شيء موجود في النصوص والتراث ومن يفكر في شيء جديد يكفر. كما أن الفقر الذي وقعنا فيه لم يترك أحدا ينفق على العلماء ليتفرغوا للبحث والتفكير.