الضرب على القفا!

TT

كانت إحدى السيدات اللبنانيات تحكي لصديقتها المصرية في إحدى دول الخليج، حيث يعمل الزوجان فيها، إنها وزوجها بصدد الانتقال للقاهرة لأن زوجها حصل على عقد عمل جديد مع إحدى الشركات العالمية الموجودة بمصر، وإنها في طريقها لتأثيث سكنها الجديد في إحدى الشقق هناك، ولكنها ترغب منها أن تقدم لها المساعدة والعون في إرسال كهربائي لها يساعد في فحص الشقة وكشف العلل والخلل والعيوب في التوصيلات الكهربائية الموجودة فيها.

واتفقت السيدة المصرية على أن ترسل لها الكهربائي بعد وصول صديقتها اللبنانية بثلاثة أيام، وبعد الموعد اتصلت السيدة لتطمئن إذا كان الكهربائي قد قام بالمطلوب، فما كان من السيدة اللبنانية سوى القول وبأسلوب بسيط: «نعم اجى الكهربائي على الموعد وبعدين قلعته»، وهنا صرخت السيدة المصرية: «قلعتيه إزاي؟ ما ينفعش كده ده اسمه عيب! إزاي تقلعي الراجل من هدومه؟». طبعا هذه الواقعة هي التي يطلق عليها «واقعات» فهمتها غلط أو كما تسمى في الغرب وقائع الضياع في الترجمة عندما تكون كلمة أو كلمتان أشبه بالمغطس الذي يضيع بسببه المغزى المطلوب. تذكرت هذا الأمر وأنا أتابع التاريخ السياسي المعاصر وكيف أن هذا الموضوع مليء بـ«فهمتها غلط».

فكيف قامت «ثورات» في الخمسينات والستينات الميلادية من القرن الماضي و«بلعتها» الشعوب على أنها كذلك، وواقع الأمر أن الموضوع لم يكن سوى «انقلابات» عسكرية أتت بزمرة قليلة من العسكر ليدمروا كل مظاهر الحياة المدنية التي كانت قبلها. والحديث نفسه ينطبق على المتحدثين باسم «الدين» وتحت شتى العلامات التجارية المختلفة «إخوان» و«سلف» و«جهادي» و«تحريري» و«جامي» و«سروري» وغيرها، هي في الواقع أندية خاصة ومغلقة لها شروط عضوية ومرجعيات مهما كان الظاهر سمحا ومتجاوبا وودودا. وطبعا هناك مشاهد «المقاومة» و«التحرير» و«النضال» و«الخلاص» و«الممانعة».

وكل من رفع هذه الشعارات كان في الواقع أداة واضحة وصريحة للاحتلال وتكريسه وأداة للفتنة والاقتتال الداخلي والإجرام الممنهج المستمر، ناهيك طبعا باللغة المدهشة والآسرة في الخطاب القومي العروبي الذي يدندن ليلا ونهارا على أن العرب وحدة واحدة وقوة واحدة، وأن بلادهم واحدة ولكن يجب أن تحكم «بطريقتنا» فقط، وهو الأسلوب الهمجي الذي سارت عليه حركات البعث القومية الناصرية التي وعدت وروجت لأفكار الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين وقدمت على أرض الواقع تفتيتا وعبودية وتسلطا فرديا وأسهمت في إضافة أراض عربية لرقعة الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل لتزيد محنة فلسطين محنا أخرى.

العبارات الساحرة والآسرة الأخاذة في القاموس السياسي العربي هي «المغطس» الكبير دوما، وهي الفخ الذي يسقط فيه الشعب المتحمس خلف الخطابات الرنانة في كل مرة، ولكن المشهد هذه الأيام يواصل الإدهاش والإبهار لتسقط الأقنعة الواحدة تلو الأخرى لتنكشف حقائق خلف الكواليس.

جماعات كانت في الظاهر تعد بتحرير فلسطين وقطع خط الغاز عن إسرائيل وقطع العلاقات معها فورا بلا تأخير والحذر كل الحذر من الخطاب الأميركي ليتبين كما أصبح واضحا أن كل ذلك ما هو إلا هراء وضحك على الذقون، وأن الكلمات الرنانة البراقة، سواء أكانت «مقاومة» أو «حرية وعدالة» أو«نهضة» إذا لم يصاحبها حكم رشيد ومحاسبة ومسؤولية وبعد عن دولة المحاسيب والأنصار وتكريس لدولة القانون والمؤسسات، سيكون الأمر فقاعة سرعان ما سيفيق الناس ويستوعبون الكابوس والخديعة اللذين كانوا يعيشون فيهما ومن ضمنهما، ووقتها سيكون الإحساس بالغدر والخداع دافعا عنيفا لفعل شيء أكثر إيلاما، فالشعوب كالمؤمن لا يمكن أن يلدغ من جحر مرتين ولا تضرب على قفاها مرات ومرات.

[email protected]