العلاقة الغامضة بين «الإخواني» و«الجهادي»

TT

لست مصلحا اجتماعيا يزعم أنه يريد أن يغادر الدنيا، بعدما جمع العرب على صفاء ووئام. ولست داعية فتنة لعنه الله يبحث عن إشعالها أكثر مما هي مشتعلة. إنما همي أن أتناول محذورات كانت حساسيتها سببا في إهمالها. لأنها تفرض سلفا اتهام من يتناولها بأنه منحاز إلى هذا الطرف، ومتهجم على ذاك.

كنت أول من نبه إلى خطر انفجار الوضع في مالي، ليس كقضية تدخل عسكري «استعماري» في أفريقيا، إنما لأقول إن هناك قوة عربية إسلامية ملتهبة تشكلت وظهرت ميدانيا في بلدان المغرب العربي وأفريقيا الساحل الممتد من موريتانيا إلى القرن الأفريقي.

هذه القوة الكبيرة كانت مغيبة إعلاميا. فشل أميركا أوباما في الرهان على الإسلام «الإخواني» كنظام حكم ديمقراطي، وضع تلك القوة فجأة تحت دائرة الضوء. فقد ظنت أنها قادرة على تشكيل نظام إسلامي بديل مقبول، في المغرب العربي، وربما أيضا في المشرق.

هذه القوة تعالج اليوم كقضية أمنية، عبر مطاردتها بعفريت أوباما الطائر (طائرة درون)، أو بطمسها إعلاميا، كالعادة، على الصعيد العربي، مع أن السعودية أردفت الحل الأمني بحوار المصارحة والتوعية الدينية مع بعض شباب هذه الجماعة.

المعالجة السعودية التربوية يمكن توسيعها وتنويع برامجها، إذا أدرك هذا المثقف الخطر الذي يحكم أميركا أن الإصلاح الاجتماعي يبدأ بتقديم التعليم والتربية على أمن النحلة (درون) الذي يقتل قاعديا واحدا مع مدنيين أبرياء ليخلق عشرة قاعديين أكثر مرارة وتشددا فكريا ضد هذا العالم (الكافر)، بما فيه العرب الذين تجب أسلمتهم من جديد، ولو بالقوة.

لكن أولا كيف نشأت هذه القوة الإسلامية المتزمتة؟ ومن المسؤول؟ وما هي علاقتها الملتبسة بالجماعة الإخوانية ماضيا وحاضرا؟ حسن البنا نجح كداعية، وليس كمفكر. أسس جماعة ألغت التوفيق بين ثقافة التراث والحداثة وتسترت على اعتناقها العنف السياسي.

«الجهاز السري» في «الإخوان» اغتال رئيسين للحكومة وقاضيا كبيرا. وأخفق في اغتيال رئيس ثالث (عبد الناصر). التستر على جهاز العنف أدى إلى تصفية الدولة للداعية البنا، وملاحقة أتباعه.

غير أن العنف للعنف لم يكن صالحا كمبدأ لجماعة آيديولوجية مسيَّسة. وهكذا كان الإسلام السياسي الهندي (الندوي والمودودي) مصدر إلهام فكري لمثقف شديد الحساسية ظن أن الإسلام العربي يعاني حصارا اجتماعيا في مجتمع غالبيته إسلامية!

أخطأ عبد الناصر في منح «الإخوان» شهيدهم ومفكرهم النافذ الوحيد. وأخطأ سيد قطب في زندقة الإسلام العربي، داعيا إلى أسلمته بالعنف والقوة. و«الإخوان» يخجلون اليوم من اعتبار قطب ملهمهم ومفكرهم، باستثناء «عواجيز» تلامذته المعسكرين في «مكتب الإرشاد» الحاكم الحقيقي في مصر. ويشرفون على برامج «أخونة» الدولة والمجتمع، من دون أن يتلقوا تفويضا شعبيا.

غير أن قطب بات، في الحقيقة، ملهما «للجهاديين» الذين خرجوا أولا من رحم «الإخوان». وهو الذي وجههم إلى كتب التفسير الضيقة التي فسرت فجر الإسلام، أو في ذروة معركته مع الغزو الصليبي.

بعد انفجار الانتفاضات والثورات العربية، تبين أن التدريب الأميركي الذي تبنى الإسلام «الإخواني»، كنظام حكم، لم يكن كافيا لإقناع أصحابه بتنفيذ وعودهم بتعددية سياسية حقيقية. وتداول السلطة عبر سُلَّم الاقتراع الشعبي، مع القوى الليبرالية واليسارية. وكانت الخشية الأميركية كبيرة أن تمتد «الأخونة» إلى الجيش في مصر. وتونس.

واشتدت الريبة بوجود علاقة بين الإسلامين «الإخواني» و«الجهادي» هدفها إقامة دولة دينية، مع اختلاف أسلوب السعي لتحقيقها. وانفجرت الشبهة عندما ندد الرئيس المصري محمد مرسي وغيره من إسلاميين، بالغزو الفرنسي «للجهاديين» في مالي. ثم بعد اتهام «الجهاديين» باغتيال شكري بلعيد السياسي القومي اليساري المتربي في المدرسة البعثية الصدامية.

دخول الصراع العربي مرحلة الاغتيال السياسي في بلدان الانتفاضات والثورات، كشف مزيدا من المعلومات عن هذه العلاقة الغامضة. اغتيال التونسي بلعيد فضح وجود معظم خلية الاعتراف «الجهادية» أعضاء في ميليشيا حزب النهضة الحاكم!

هل هذه العلاقة حقيقية وعميقة، أم هي من نسج الخصوم وخيال الإعلام؟ الواقع أن هذه العلاقة واضحة تماما في مصر. فالحركة السلفية هي اليوم «واسطة خير» بين «الإخوان» والمجتمع الثائر على الإخوان ومعه الحركات الليبرالية.

وأود أن أنوه هنا بأن الإسلام السلفي في مصر هو عدة تنظيمات، معظمها أو كلها طلق العنف الديني منذ عصر مبارك. والتزم بحد أدنى من التكيف والانسجام مع الديمقراطية الوليدة، بما في ذلك «الحاكمية» الشعبية لغزوة صناديق الاقتراع.

كم كنت من المدافعين القلة عن مصداقية الجيش المصري. بعد تعرضه لحملات القوى الشبابية. والليبرالية. واليسارية التي استغلها الإخوان في التخلص من المجلس العسكري السابق، إثر اتهامه بالتقصير في تأمين القوة الحدودية التي تعرضت إلى مذبحة حقيقية بأيدي «الجهاديين» المنطلقين من غزة حيث تحتضنهم «حماس» الإخوانية هناك.

بعد الانفجار الشعبي ضد عجز الإخوان في معالجة أزمات مصر الاقتصادية والسياسة، تمكن الجيش من استعادة ثقة الشارع الشعبي والسياسي المعارض للإخوان. واستأنف الحملة الصامتة ضد «الجهاديين» حلفاء حماس الناشطين في سيناء. وظهرت صور للفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع ورئيس أركانه مع قائد سلاح الطيران الأميركي، وقائد القيادة المركزية الأميركية التي تغطي منطقة الشرق الأدنى.

الدين له أوجه كثيرة. المتسامح يرى فيه سماحا. اعتدالا. رحمة. المتشدد يرى فيه عنفا. وجهادا. تصريحات الزعماء «الجهاديين» التي أدلوا بها في مالي لبعثة «الأهرام» الصحافية، تؤكد الحاجة إلى إنفاق النظامين العربي والأميركي، لتوسيع برامج التربية والتعليم العربية والإسلامية، لتحديث الثقافة الدينية، وتطعيمها بثقافة إنسانية، ولتخريج أئمة للإسلام الجهادي يفهمون العالم. والسياسة. ولتقديم إسلام أقل تقشفا، وأكثر إيمانا بأن هذا العالم فيه، على الأقل، من خير، بقدر ما فيه من شر.