النهضة لا تسمع!

TT

بعد مد وجزر، وشد وجذب، وصمت ثقيل ملغوم، قدم السيد الجبالي رئيس الحكومة استقالته، والحال أنه قد ذهب في أذهان أغلبية النخب السياسية كون النهضة ستعيد ترشيحه كما أكد كل ممثليها الذين تحدثوا في وسائل الإعلام.

ولكن النهضة تحايلت على الوضع، مبرزة أنها متمسكة بإعادة ترشيح الجبالي في صورة تخليه عن مبادرة حكومة كفاءات وطنية. وفي الحقيقة هي تدرك جيدا أنه ليس منطقيا أن يستقيل ثم يقبل بشروط حركة النهضة، والحال أنه يمكنه أن لا يستقيل ويلبي طلباتها!

ومن ثم، فإن إدارة حركة النهضة للمسألة كان فيها استخفاف بذكاء التونسيين ونخبهم، وربما ما فات مجلس الشورى لحركة النهضة الذي كثر الحديث عنه هذه الأيام أن أول الخاسرين من إجهاض مبادرة الجبالي هي حركة النهضة نفسها التي تعاطت مع ما بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد بأذن سياسية لا تسمع، وهي أول عاهة خطيرة يمكن أن يصاب بها حزب سياسي حاكم، بدليل أن رصيدها في تراجع لصالح قوى أخرى.

لقد فوت الجبالي على النهضة تجربة مهمة عندما تباطأ في تفعيل المبادرة التي انطلقت دون استشارة، ثم خطر له أن يقوم بكل الاستشارات الممكنة، مما أضاع الوقت، ومكن النهضة من استعادة تماسكها الذي فقدته في اليومين الأولين لاغتيال شكري بلعيد، وكان الأجدر بالجبالي - كما قال - أن يشكل حكومته خلال 24 ساعة، ولكن يبدو أن ثقل ضغط النهضة النفسي والسياسي عليه قد قاده إلى أن يترك الجمل بما حمل!

قلنا إن أداء النهضة في الأشهر الأخيرة يكشف عن خلل ما في حاسة السمع، وهو قول قد يرى فيه البعض تحاملا ومبالغة. ولكن الظاهر أن اختيار النهضة للسيد علي العريض كي يكون رئيسا للحكومة خلفا لحمادي الجبالي، يدعم في أقل الحالات حالة اللاسمع السياسي داخليا وخارجيا.

والغريب أن الرجل الذي منذ أشهر والمعارضة تدعو إلى إقالته وتحييد منصب وزير الداخلية عن الانتماء الحزبي، قامت حركة النهضة بترقيته إلى منصب رئيس حكومة.

طبعا لا نستطيع من باب الموضوعية والإنصاف التقليل من شخص السيد علي عريض؛ فهو من المناضلين الذين ذاقوا عذاب السجن، ويكفي أنه من القلائل الذين وضعوا في سجن منعزل طلية عشر سنوات. ومن ثمة فالإشكال ليس في علي عريض، ولكن في جهاز النهضة الذي رمى به في محرقة هذا المنصب ورصيده في إدارة وزارة الداخلية مليء بالانتقادات. فالمشكلة أن حركة النهضة تتصرف في الحكومة والدولة وكأنها شأن داخلي أو مؤسسة من مؤسساتها، وعوض التفكير سياسيا واستراتيجيا في كيفية توسيع دائرة الوفاق السياسي داخليا مع إرسال رسائل ذكاء سياسي وقدرة في الحكم للخارج، فإنها تمارس «الشرعية» في انعدام لا فقط لحاسة السمع بل والعين أيضا.

بالنسبة إلى السيد علي العريض، وبصرف النظر عن الأسباب والمسببات والأوضاع المنفلتة وضيق الإمكانيات، فإن هناك شبه إجماع على أنه فشل في مهمته كوزير للداخلية، ومن مؤشرات قياس هذا الفشل نذكر أحداث السفارة الأميركية لدى تونس، وأيضا أحداث سليانة، وأخيرا حادثة اغتيال شكري بلعيد، وهي أول جريمة سياسية في تونس المستقلة منذ 1956! وهذه المؤشرات وغيرها أدت إلى أن يكون السيد علي العريض من أكثر من شملهم النقد طلية الأشهر الماضية.

إن رئيس الوزراء الذي رشحته النهضة طريقه محفوف بالمصاعب، وأي قطرة فشل جديدة ستجعل الكأس تفيض، وهو ما لم يفكر فيه مجلس الشورى في حركة النهضة الذي أظهر أن حركة النهضة وطنه أكثر من تونس، وأهدر فرصة تدارك مهمة عندما رفض دعم الجبالي.

نعم عندما يفقد الحزب الحاكم السمع والبصر، يدخل في مرحلة إطفاء الجاذبية، خصوصا أن التونسيين كعادتهم يوهمون الحاكم بأنهم مسالمون، بل أحيانا سلبيون، ثم في لحظة ما يناديهم شارع الحبيب بورقيبة.

إن السياسي الجيد في تونس اليوم هو الذي يتذكر يوميا يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011، فهي ذكرى مليئة بالعبر بالنسبة إلى من تتوفر فيه كفاءة الاعتبار!