«امشِ شهر ولا تعبر نهر»

TT

كنت أتوقع طبعا اعتراض القراء على ما كتبته عن الصبر والعذاب في إطار الجهاد المدني. كان منهم القراء الأفاضل عبد الله الشهري وعمر كريم وإياد يونس ومحمد عبد الله. لهم اعتراض وجيه طالما ردده نقاد الجهاد المدني. ينجح هذا الأسلوب ضد حاكم رقيق متنور يحترم القانون. هكذا نجح غاندي ضد الإنجليز. أكان من الممكن له ذلك لو أن خصمه كان هتلر أو القذافي؟

أولا.. إن الصبر وتحمل العذاب ليسا السلاح الوحيد في ترسانة اللاعنف. هناك المقاطعة واللاتعاون واللاتآخي والتحدي والتظاهر والاعتصام والعصيان المدني والإضراب بأنواعه المختلفة بما فيها الإضراب عن الطعام. يضم بعض اللاعنفيين لهذه الترسانة العرقلة والتخريب اللادموي. وقد أضفت في كتابي «نحو اللاعنف» أساليب أخرى لمقارعة حتى أسوأ الأنظمة الفاشية.

ثانيا.. إن الجهاد المدني لا ينجح كمجرد بديل للقنبلة في ضرب السلطة. إنه فلسفة وطريقة للحياة تقوم على المحبة والإيمان بأخوة العائلة البشرية. على المجاهد المدني ألا يمارس العنف ضد الآخرين أو ضد أطفاله وأزواجه أو ضد الحيوان أو الخضرة أو البيئة. عليه دوما أن يسعى لإقناع خصمه بأنه ليس عدوا له وإنما أخ يطالب بحقوق إنسانية مشروعة ومستعد للحوار والتفاهم.

قد يكون ذلك من عيوب الجهاد المدني، فهو يتطلب هذا المستوى من النضوج. وهذا ما جعل غاندي يوقف حملة العصيان المدني في الهند عندما وجد أن القوم أخذوا ينهبون الممتلكات ويحطمونها. قال إن الشعب الهندي لم ينضج بعد لمستوى العصيان المدني، وكل ذلك رغم معتقداتهم البوذية والهندوسية التي تحرم العنف. سيقال هنا إن شعوبنا العربية كذلك لم تنضج بعد للجهاد المدني. بيد أن الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى وشباب الربيع العربي أظهروا من الوعي والنضج ما مكنهم من الالتزام بالسلام واللاعنف والتصرف المتمدن.

وكأي مشروع سياسي، لا يمكن للجهاد المدني أن ينجح إذا كانت أهدافه غير معقولة وغير ممكنة، كالإيمان بإزالة إسرائيل من الخارطة ورمي يهودها في البحر.

يتفوق الجهاد المدني على النضال المسلح في أن الأخير يحتاج للسلاح والمال، وهذا يجره للاعتماد على دولة خارجية سرعان ما يقع في مخالبها، فضلا عن ذلك فإنه كثيرا ما يؤدي للإرهاب والديكتاتورية والحكم الفردي وخسائر في الأرواح والأموال، ويُعلّم أصحابه على السرية والمكر والمخادعة والمراوغة والتآمر حتى على بعضهم البعض.. وعندما ينجح يعطيك حكما فاشيا فرديا. الجهاد المدني يفضي إلى الديمقراطية لأنه لا ينجح إلا بمشاركة مجموع الشعب وفي إطار تعامل ديمقراطي يقوم على المصارحة والحقيقة وليس بعصبة من المغامرين المتآمرين المفطورين على العنف والقتل. وهنا نجد عيبا آخر من عيوب اللاعنف فهو يتطلب مدة أطول، فحملة غاندي استغرقت أعواما طويلة، في حين أن انقلاب عبد الكريم قاسم والقذافي لم يتطلب غير ساعات قليلة. لكن قارن يا سيدي القارئ بين النتائج على المدى البعيد.

وهذا ما جعلني أستوحي عنوان مقالتي هذه من الحكمة العربية الشعبية القائلة: «امشِ شهر ولا تعبر نهر»!