«آسفين يا فاروق»

TT

كنت في جلسة خاصة جمعتني بأحد الأصدقاء الذين لم ألقَهم منذ مدة ليست بالقصيرة، واستأذن أن يحضر معه صديق له طبيب زائر من مصر، وبدا على الطبيب المصري أنه مهموم وشارد الذهن وفي عينيه قلق وخوف لا يمكن إنكارهما. فلم أتمالك نفسي إلا أن أسأله بشكل مباشر: خيرا أخي الكريم؟ فأجاب بتردد: هه؟ أنا خايف على بلدي. فأجبته: لست وحدك، كلنا قلقون على مصر. أضاف الرجل: أنا محتار في أمر بلدي جدا، انطلقت ثورة ونالت إعجاب العالم لسلميتها ومثاليتها وخلوها من العنف والدم والقتل، وكانت فيها العبر والرسائل، ما ألهم الناس حول العالم بشكل رومانسي خلاب.

وحصلت الانتخابات وأعلنت النتائج وسط جدل وأسلوب «غريب» و«نشاز» في إعلان النتائج التي شابتها اتهامات بالتزوير والتأثير على الناخبين، ومع كل هذا الأمر حصل «القبول» بالواقع وبكل النتائج، وتقرر إعطاء الرئيس محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين الفرصة الكاملة والتعامل بمبدأ إحسان الظن الأخلاقي إلى أقصى درجة، والابتعاد عن الشبهة والشبهات والأحكام المسبقة. وأعتقد أن أجمل وأبلغ وأدق وصف وتوصيف لما حدث هو أن مرسي كان أشبه بمهاجم في فريق كرة قدم يؤيده ويشجعه عشرات الآلاف من المشجعين المكتظ بهم الملعب الكبير، وهم يشدون أزره ويرفعون من همته لتسجيل هدف في شباك الخصم، ثم ليفاجأوا مذهولين باستدارة المهاجم وليقوم بتسجيل ما يقارب الخمسين هدفا في مرمى فريقه!

الصدمة التي انتابت شرائح ضخمة من المجتمع المصري وهم يرون المجتمع يتمزق ويتم فيه تكريس فكرة «إذا لم تكن معنا فأنت حتما ضدنا»، وباتت الصورة المطلوب ترويجها بشكل واضح ومركز ومكثف أن هناك «مخلصين، أتقياء، يخافون الله، نصروا الثورة»، وغيرهم ما هم إلا «خونة وفلول» يجب فضحهم ومحاربتهم. مصر دخلت في مرحلة قلق وخطر، فبعيدا عن هيبة الدولة التي باتت في شك كبير، والتعدي على ممتلكاتها كمظاهر احتجاج بات مشهدا يوميا وحزينا ومؤلما، هناك المشهد الاقتصادي المخيف الذي يتزايد ضراوة وصعوبة وحدة، والذي أصبح مليئا بعلامات الذعر الذي ينذر بشؤم هائل في قطاع البطالة، مع ندرة - إن لم نقُل استحالة - فرصة التوظيف في ظل المناخ السياسي والأمني هذا، وكذلك الأمر بالنسبة لوضع المداخيل المتدنية مع تدهور السياحة والاستثمار الأجنبي، وطبعا لا يمكن إغفال التهاوي الكبير في قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، وطبعا أمام العملات الأخرى بطبيعة الحال. وزاد على كل ذلك وجود مناخ سلبي في حق رجال الأعمال المصريين ورجال الإعلام وكذلك بعض رموز الفكر والأدب، وذلك عبر «تهم قضائية» تم الإتيان بها من الأرشيف القديم وتقليب أوراق الماضي بشكل استفزازي هدم آخر جسور الثقة وحسن الظن.

مصر تحولت من أيقونة أمل ومشهد الثورة المثالية إلى أيقونة للفوضى والانفلات، مع العلم التام أن في مصر من الإرث الحضاري والسياسي والفكري الشيء الكثير الذي ينتج شخصيات قادرة على قيادة البلاد وفي كل المجالات بتميز وامتياز.

مصر أنتجت شخصيات سياسية وزعامات فذة واقتصاديين عباقرة ومفكرين استثنائيين، ولذلك من الصادم اليوم أن تكون بعض الشخصيات والزعامات بهذه النوعية من السطحية. مصر بثقلها وتاريخها وإرثها وحضارتها ومجدها وشعبها أهم وأكبر بكثير مما يحب ساستها أن يصوروها عليه اليوم بشكل كاريكاتيري. المشهد يزداد حزنا وكآبة، ولعل أحد المصريين اختصر الحقبة السياسية الأخيرة بمصر ليؤسس صفحة على الـ«فيس بوك» عنوانها «آسفين يا فاروق»، وفي عنوان الصفحة مغزى عظيم.

[email protected]