اغتيال المعري!

TT

لا أعرف لماذا شعرت بالضحك للوهلة الأولى عندما سمعت بقطع رأس التمثال في معرة النعمان. وازداد ضحكي عندما قرأت هنا في هذه الصحيفة قبل حوالي أسبوعين مقال سوسن الأبطح: «معركة جز رؤوس التماثيل». العنوان بحد ذاته أدخلني في نوبة من الضحك والانشراح. يخيل إليّ أن سوسن بارعة في فن التهكم المبطن أو السخرية المرة. وهل هناك من طريقة أخرى لـ«فشّ الخلق» أمام هذه التفاهات؟ هل هناك من سلاح آخر في الوقت الراهن؟ في الواقع أن المعري كان مستهدفا على مدار التاريخ. ولا أعرف لماذا لم يغتالوه حيا! كيف نجا بجلده؟ ربما لأنه كان ضريرا أعمى رهين المحبسين.. أقول ذلك على الرغم من أن عصره كان بداية الدخول في عصر الانحطاط. ولكن يبدو أن أنوار العصر الذهبي لم تكن قد انطفأت كليا بعد. بل وحتى قبل ثلاثين أو أربعين سنة كنا أكثر استنارة مما نحن عليه الآن. والدليل على ذلك القصة التالية.

عندما كنت طالبا في ثانوية «جبلة» بسوريا دخل علينا في أحد الأيام أستاذ التربية الدينية محمد أديب قسام. وكنت أحب درسه وأنتظره بفارغ الصبر كل أسبوع لأنه كان أزهريا فصيحا وذا منهجية تربوية رائعة في شرح الدين. لم يكن يشعرك بالملل إطلاقا على عكس المشايخ الآخرين. كان ذا حضور مهيب وحقيقي. في إحدى المرات وقبل أن يبتدئ الدرس بدقائق انتهزت الفرصة وسألته: أستاذ ما رأيك بالمعري؟ هز رأسه أو مسد لحيته قليلا قبل أن يجيب: نحسن الظن.. نحسن الظن.. فوجئت بالجواب لأني ما كنت أسأله عن إيمانه وإنما عن شعره وأدبه. ولكن ما كان ينبغي أن أتفاجأ على الإطلاق. فرجل الدين أول شيء يخطر على باله هو المعتقد. ومع ذلك فقد كان أستاذنا رحمه الله أكثر تسامحا تجاه المعري من كبار فقهاء الماضي أو من أولئك الذين قطعوا رأسه رمزيا مؤخرا. كان يمكن أن يجيبني فورا: كافر زنديق لعنه الله! نقطة على السطر. ولكنه تريث بكل حكمة وسعة صدر وأبقى الباب مفتوحا.

من المعلوم أن كثيرا من كبار فقهائنا ومشايخنا الأجلاء كانوا يكرهون المعري كرها شديدا ويشتبهون به. وبالتالي فقطع رأسه قبل أيام أو أسابيع شيء منطقي جدا. فقد طبقوا عليه فتاوى ضخمة ولم يتصرفوا بطريقة ارتجالية على الإطلاق. فثقافتهم محصورة بالتدين المفرغ من أي ثقافة. وأما المعري فقد كان مثقفا كبيرا لا يشق له غبار. وربما كان أكبر عبقري في تاريخ الآداب العربية. ولكن التيار الانغلاقي هو الذي هيمن على الوعي الإسلامي منذ الدخول في عصر الانحطاط. وهو الذي يسبب لنا حاليا مشكلة مع العالم كله، ومع أنفسنا أيضا. وأخشى ما نخشاه هو أن يهدموا أهرامات مصر أيضا! ولا أتحدث هنا فقط عن «الهرمين» الكبيرين طه حسين وأم كلثوم. ولكن لا أعتقد أن ذلك سيحصل لأن مصر ذات عمق حضاري وحداثي كبير. في كل الأحوال توجد هنا مشكلة ضخمة، يوجد انسداد تاريخي هائل لا يمكن للفكر العربي أن يتجاوزه في المدى المنظور. وهذا ما يمكن أن ندعوه بأزمة الوعي الإسلامي مع نفسه ومع العصر كله. وهي لا تقل خطورة عن أزمة الوعي المسيحي الأوروبي مع نفسه على مفترق القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهي الأزمة التي توقفت عندها مطولا في كتاب «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، أو «الانسداد التاريخي»، أو «معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا»، إلخ..

قبل أن أختتم هذا الحديث أود الإشارة إلى الوجه الآخر لسوريا، الوجه المشرق الباسم الذي يعتز بالمعري وطه حسين كل الاعتزاز. وأختصره، للسرعة، بشخصيتين كبيرتين هما: بدوي الجبل ونزار قباني. في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 1944 نظم المجمع العلمي العربي بدمشق المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري. وقد حضره كبار أدباء العرب وليس فقط السوريون. وألقى عندئذ بدوي الجبل قصيدة عبقرية جاء فيها:

أعمى تلفتت العصور فما رأت

عند الشموس كنوره اللماح

من راح يحمل في جوانحه الضحى

هانت عليه أشعة المصباح

يقال إن طه حسين عندما سمع هذين البيتين، وكان حاضرا، وقف فورا. لم يستطع أن يظل جالسا من شدة التأثر والانفعال. فهما ينطبقان عليه أيضا وليس فقط على المعري.

ثم ختمها البدوي بهذين البيتين:

المجد ملك العبقرية وحدها

لا ملك جبار ولا سفاح

لا تصلح الدنيا ويصلح أمرها

إلا بفكر كالشعاع صراح

أما نزار قباني، العبقري الآخر للشعر السوري، فقد رثى طه حسين بقصيدة عصماء من أجمل ما يكون. وقد استهلها على النحو التالي:

ضوء عينيك أم هما نجمتان

كلهم لا يرى وأنت تراني

لست أدري من أين أبدأ بوحي

شجر الدمع شاخ في أجفاني

حتى وصل إلى هذا البيت الذي يكفي لتخليده:

ارم نظارتيك ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميان!