عن الحرية والحضارة

TT

أنت تتأهب لسفرية بالقطار طويلة ومهمة، استيقظت مبكرا، تناولت حماما ساخنا، تعطّرت، ارتديت حلة أنيقة تحت معطف أكثر أناقة. توجهت إلى محطة القطار، وقفت في الطابور أمام شباك التذاكر، ليس مسموحا لأحد بالتزاحم أمام الشباك، هناك نظام يحترمه كل الركاب المسافرين. وأنت في الطابور أخذت تتأمل ملامح المحطة حولك، تصميم المبنى يدل على ذوق راق، بالتأكيد صممها مهندس مبدع، الخضرة تكسو مساحات كبيرة، أحواض بها زهور وورود معتنى بها، حصلت على التذكرة، أنت تصعد الآن إلى قطار الحضارة المتجه إلى محطته النهائية وهي محطة العدل.. العدل النسبي وليس المطلق. البشر قادرون فقط على الوصول إلى غايات نسبية وليست مطلقة، العدل النسبي هي المحطة التي استطاع مهندسو السكك الحديدية أن يمدوا القضبان إليها، أنصحك ألا تفكر في محطة للعدل المطلق، إذ ليس لها وجود على الأرض في هذه الدنيا، هي موجودة هناك في الدار الآخرة، لن تستطيع الوصول إليها إلا عندما يحين وقتك. بدأ القطار يتحرك، كل من هم حولك هادئون واثقون أنه لا أحد سيعكر عليهم صفو رحلتهم، لا أحد سيقطع الطريق عليهم، أنت تفكر الآن في اللحظات السابقة، أنت نظيف وأنت تحترم النظام، بدليل أنك حضرت في موعدك ووقفت في طابور التذاكر بغير تذمّر، ولديك أيضا إحساس خاص بالجمال جعلك تشعر بجمال المكان، هذه هي الصفات الأساسية يا صديقي لركاب قطار الحضارة كما يراها فرويد.

غير أني أراك تتململ في مقعدك، هناك سؤال يزعجك أو يحيرك، في الغالب هو: والحرية..؟.. أنت المؤلف المسؤول عن حركة أبطالك، لماذا اخترت لي أن أركب قطار الحضارة ولم تجعلني أركب قطار الحرية.. وحتى بعد أن رسمت تلك اللوحة سهلة القراءة، لم تقم بتعريفي بالمعنى الذي تقصده من كلمة الحضارة.. ما هي الحضارة؟.. وهل هي تؤدي إلى الحرية؟

يعلم الله أنني لا أريد أن أضايقك أو أصدمك بإجابتي، ولكن رغبتي هذه يجب ألا تحول بيني وبين أن أصارحك بالحقيقة، وهي أن الحرية ليس هبة من هبات الحضارة فقد كانت مساحتها بين البشر على الأرض أكبر بكثير قبل الحضارة، كان الفرد صاحب القوة البدنية الكبيرة هو الأكثر حرية وإن كانت لا أهمية لها عندما يواجه فردا آخر أكثر منه قوة. أقصد قبل تلك المرحلة التي وصل فيها البشر إلى الالتزام بكل قانون يسنونه وهو الالتزام الذي قيّد حرية الفرد لحساب حرية المجتمع ثم فتح أبواب الدنيا كلها أمام الفلاسفة والمفكرين للتفكير في الطريقة أو الطرق لإيجاد التوازن المثمر بين الاثنين، الفرد والمجتمع. الحرية ذاتية والعدل موضوعي على الرغم من نسبيته ككل قيمة على وجه الأرض، اسأل الشاعر عن الحرية فيجيبك على الفور: أن أكتب قصيدتي وأن أنشرها بغير رقيب وأن تكون متاحة في الأسواق لكل الناس بغير أن يتم تحويلي للنيابة. اسأل فقيها دستوريا في جماعة الإخوان، سيجيبك على الفور: أن يكون لي الحق في أن أقوم بعمل التشريعات الكفيلة بحماية حكومتي من الأوغاد الذين يعاكسونها ويعملون ضدها، ويا حبذا لو استطعت تحقيق خراب كل بيوتهم. اسأل طفلا يسكن حيا عشوائيا، سيجيبك على الفور: ألا أذهب إلى المدرسة وأن ألعب في الشارع طول النهار.. أو أن أذهب إلى ميدان التحرير لإلقاء الحجارة على الفنادق والمحلات ورجال الشرطة ويا حبذا لو كان بينهم المدرسون وناظر المدرسة. غير أنك لو سألتني أنا عن الحرية لأجبتك: الحرية هي نصيب الفرد من الحرية التي يتمتع بها المجتمع نفسه، الحرية هي القانون والنظام والاثنان اسمان لمعني واحد، يخدع نفسه ويخدعنا من يظن أن حريته تتحقق بعيدا عن أهداف المجتمع. «والناس تقوم بالثورة عندما يسود الظلم مجتمعاتهم، أي أنهم يثورون لاستعادة الحضارة والنظام، وهم أيضا يثورون أحيانا ضد الحضارة ذاتها». حتى الآن أنا لا أعرف ما يقصده فرويد بجملته الأخيرة، وعندما أعرف سأقول لك على الفور. أعترف أنني ما زلت غامضا في شرح معنى الحضارة اكتفاء بما قلته عن التزام الناس بما في المجتمع من قوانين سنها المشرعون، مرة أخرى أراك تهز كتفيك وتقول: وماذا يحدث عندما يفتقر المشرع إلى النزاهة، ماذا لو كان خائفا أو طامعا في كسب يتحقق فقط بتشريع سيئ؟

تحدث كارثة بالطبع، كارثة من شأنها أن تحول الناس إلى أسراب من الجراد أو قطيع من الذئاب، هنا ألجأ مرة أخرى لفرويد وحديثه عن ردود الفعل، هو يرى أن الحضارة تتحقق أيضا عندما تتطابق توقعاتك مع ردود فعل البشر، زميلك في الحقل أو في المكتب أو في المصنع أو في الشارع أو حتى في الفراش.

أعتقد أن أبلغ دروس الحياة والتاريخ هي «توقع رد الفعل» وأن أمنا الطبيعة هي من تولت تعليمنا إياها، فنتج عن ذلك تيار عقلي وفكري؛ أي عقائد عند البشر، بأن الأرض عندما نبذر فيها البذور ونرعاها فيكون رد فعلها الوحيد هو أن تعطينا محصولا طيبا من الثمار. لقد حدثت الثورة في مصر عندما اختلفت بشكل حاد توقعات الناس مع ردود فعل حكامها. هناك رد فعل متوقع من أي مخلوق وكل مخلوق، رجل الإسعاف سيأتي مسرعا بسيارة مجهزة لينقلك إلى المستشفى في حالة إصابتك، وكل البشر من سائقي السيارات سيفسحون له الطريق حرصا على حياتك لأنك واحد منهم، ضابط الشرطة سيحميك من عدوان الآخرين، هذا الوزير يفكر في مصلحتك ويعمل على تحقيقها، هذا الموظف العام لن يعطل أوراقك، هذا السائق سيمشي على يمين الطريق، ولن يتجاوز السرعة المقررة، هذا الطبيب سيهتم فعلا بعلاجك، هذا المدرس المتوقع منه أن يعلم أولادك بكل جهد وإخلاص، هذا هو رد فعله الوحيد الذي تتوقعه منه. غير أنه عندما يمشي رد فعله في اتجاه آخر يهمل في تعليمهم ويبتزك من أجل أن يعطيهم درسا خصوصيا. عندما تكون ردود فعل البشر غير متوقعة، فعندها تبدأ بذور الثورة في النمو ثم التفجر.

كثيرون يعتقدون أن ردود الفعل الخاطئة وخاصة في الأفعال المؤثرة على المجتمع ككل، السبب فيها هو الغباء، غير أني لا أوافق على ذلك وأرى أن الدافع لها هو الرغبة العميقة في تدمير الذات. وهي غريزة حادة الذكاء تنبع مباشرة من غريزة الموت، إنها الغريزة التي تعمل بلطف على إقناعك بأن تروح في داهية. لا تتعب نفسك في محاولة فهم السبب في صدور قرارات تؤدي إلى المزيد من التوتر والغضب داخل المجتمع وبين فئاته المختلفة، إنها غريزة تدمير الذات. الحديث عن الحكومة المصرية.. طبعا أنت تتوقع مني أن أحدثك عن بعض هذه القرارات.. وأرد عليك بكلمة واحدة: حدثني أنت عن قرار واحد أسعد مواطنا واحدا.. سكتّ ليه؟