رحل شافيز!

TT

جنوب أميركا وأميركا اللاتينية قارة فيها من الخلائط والتشكيلات ما يجعلها رمزا للعالم الجديد، فحين اكتشاف «كولومبوس» لها هي وجارتها الشمالية هاجر إليها أهل أوروبا والشرق الأوسط والأقصى أملا في حياة جديدة وبداية أخرى.

ولأميركا اللاتينية «جوها» الخاص بها، والذي تكون مع الوقت وبات بصمة خاصة بها، وانعكس هذا على اقتصادها وسياستها وفنونها وآدابها ورياضتها. وأنتجت أميركا اللاتينية الفطاحل من الشخصيات الآسرة في هذه المجالات، فمنها خرج «كاروسو» عبقري فن أداء الأوبرا وتحديدا من الأرجنتين، ومنها خرج «بيليه» أعظم لاعب كرة قدم في التاريخ، ومنها خرج إدموند صفرا المصرفي الفذ، ومنها خرج بابلو نيرودا الشاعر العبقري، ومنها خرج غابرييل غارسيا ماركيز الروائي الأهم، وأيضا منها خرج ساسة استثنائيون مثل الليندي زعيم تشيلي، وتشي غيفارا البوليفي الثائر، وفيدل كاسترو الثورجي الكوبي، وغيرهم.

وسط هذا الجو الملبد بغيوم التميز اللاتيني كانت دوما لفنزويلا مكانة «مختلفة»، فهي تحمل الإرث الثوري بحكم كونها البلد الذي يعتز ويفتخر بأنه مسقط رأس إحدى أهم الشخصيات الثورية في تاريخ جنوب أميركا.. إنه سيمون بوليفار، الرجل الذي خلدت ذكراه على أسماء شوارع وطرقات وميادين، بل وحتى على السيجار الكوبي، وهو أيضا المسمى الرسمي لعملة فنزويلا نفسها. وغير ذلك لا تعرف فنزويلا إلا أنها بلد نفطي شديد الثراء، وأنها «أنجبت» أكبر عدد من رابحات أجمل نساء العالم في مسابقات ملكات الجمال الدولية.

كان ذلك الأمر قبل وصول هوغو شافيز إلى الحكم في بلاده. جاء شافيز بشخصية كاريزماتية واعدا شعبه بأن يكون نصير الفقراء وداعم المساكين، وتخلى عن المظاهر التي كانت تستفز شعبه وعلى الأغلب كانت معظمها مظاهر شكلية، مثل خلاصه من البدل وربطات العنق، ومن كل مظاهر البذخ، واستبدال بدلات الرياضة بها. وكان يحرص على زيارة أحياء الفقراء والتصوير معهم وتقبيل رؤوسهم وأياديهم، وحول اقتصاد فنزويلا بالتدريج إلى اقتصاد «اشتراكي» بامتياز، مركزا فيه على فكرة «توزيع» الثروات على حساب شركات كبرى تم تأميمها، وتقليص مصالح ونفوذ شركات ومصالح كثيرة.

لكن شافيز لم يكتف بهذا الطرح «المثالي»، فقد توجه لاستغلال ثروات بلاده لتكريس نفسه كزعيم لأميركا الجنوبية، وبدأ في سياسة دعم كبرى لكوبا، وذلك لتقوية نظام والده الروحي الزعيم الكوبي التاريخي فيدل كاسترو، وكذلك قام بدعم العديد من الأنظمة الاشتراكية والمرشحين الاشتراكيين في أكثر من دولة بأميركا، وقام بتوصيل النفط مجانا أكثر من مرة للأحياء الفقيرة بنيويورك لأجل «غيظ» الإدارة الأميركية التي أعلنت عداءها له وكانت تساند جارته اللدودة كولومبيا.

ولم يكتف هوغو شافيز بذلك، لكنه توغل في أفريقيا والشرق الأوسط لتكوين «صداقات» وعلاقات استراتيجية، واختار لذلك أن يكون حليفا وداعما مهما لكل من أحمد نجادي في إيران، والقذافي في ليبيا، والكارثة بشار الأسد في سوريا، وهي كلها علاقات اعتمدها شافيز لأجل «مناكفة» الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول وليس أكثر.

رحل هوغو شافيز بعد صراع مرير مع مرض السرطان، وترك سيرة مثيرة للجدل مثل حياته، حيث حاول أن يكون زعيما للقارة الجنوبية، واضطر في النهاية لأن يكون فقرة مثيرة في التاريخ السياسي لهذه القارة الثورية.

[email protected]