متى تبدأ الانتفاضة الرقمية؟

TT

لم تفعل إدارة «فيس بوك»، بتعزيزها مكانة الصور وأفلام الفيديو والموسيقى على صفحاتها، سوى الاستجابة لرغبة جمهورها الذي صار عدده خُمس سكان الأرض. وهو ما أقدمت عليه سابقا عندما اشترت «أنستغرام»؛ التطبيق الخاص بالصور الذي بلغ مستخدموه خلال سنتين فقط 100 مليون شخص. رقم خيالي احتاج موقع «تويتر» إلى خمس سنوات كاملة ليصل إليه. وعلى هذا النهج تسير شركة «غوغل» العملاقة بعد أن وعت بأن السمعي البصري هو عشق الناس وولعهم، وليس الفلسفة أو الأبحاث الفكرية، بينما ألغت «ياهو» عددا من خدماتها، من بينها «المدونات»، وأربكت عشرات آلاف المشتركين، لصالح ما هو مرغوب ومحبوب من عامة المستخدمين. وهذا كله يتم وفقا لدراسات وإحصاءات علمية بالأرقام.

وبما أن ما يطلبه الجمهور أصبح هو المحور الذي تدور حوله سياسات الدول، وابتكارات الشركات التجارية، فإن أنجع الوسائل لمعرفة ما يريد هؤلاء هو رصد انفعالاتهم وتفاعلاتهم. وهذا ما هو غائب، تماما، عن الساحة العربية، حيث يتخبط السياسيون كما المستثمرون، وتثور الشعوب، ويتحول سوء الفهم إلى حروب ضروس، لا يبدو أن نهايتها منظورة.

ومن بائعي السندوتشات مرورا بناشري الكتب وصولا إلى أصحاب الفخامة الكل يعترف، اليوم، بأن منتجه بحاجة إلى تجديد وتلميع وتقديم بطريقة مختلفة. ومن يعرف الناشرين عن كثب يدرك الحيرة التي يعيشون. فالكتاب العربي لم يعد مقبولا ولا مرغوبا؛ سواء في مضمونه الذي يتهاوى مستواه، أو في طريقة تقديمه التي أكل عليها الدهر وشرب. وثمة ناشرون أذكياء بدأوا يفكرون اليوم، بالفعل، بتغيير استراتيجياتهم جذريا، بعد أن أصبح النهم للصورة واضحا والتعلق بالشاشات جنونيا.

الكتاب العربي الإلكتروني على الطريق، لكن لا تزال دونه عقبات تقنية تحتاج إلى تذليل. فالكتابة من اليمين إلى اليسار كانت مشكلة عند إطلاق العربية على الإنترنت، وها هي تحول دون إطلاق سريع للكتب الإلكترونية بلغة الضاد، على الرغم من استعجال الناشرين ورغبتهم الجامحة. وبانتظار التغلب على الصعاب هناك بين أصحاب دور النشر من يفكرون بأن يصحبوا إطلاق كتبهم بشيء من الأنشطة الموسيقية أو العروض التي تعتمد الـ«ملتيميديا»، لتقريبها من الجمهور، وربما الترويج لها بأساليب صادمة ومفاجئة، على غرار ما يتم في دول أخرى، وإلا فإن كثيرا من الدور، وبعضها كبيرة وذات صيت، ستضطر عاجلا أم آجلا لإعلان إفلاسها. والكلام هنا لا يُقصد منه التهويل أو التخويف، وإنما نقل حالة من القلق الشديد التي تسيطر على عالم النشر العربي، في محطة مفصلية من عمر الإنسانية لا تشبهها سوى لحظة اكتشاف المطبعة. وها نحن أمام التحول من الورق إلى الشاشات، والتخبط على أشده، تحديدا لأن ثمة حلقة مفقودة، وهي: المعلومات.

وما يشكو منه الناشرون يؤرق الصحافيين. فثمة صحافيون ما زالوا يستخدمون القلم والورقة، اضطروا للعمل في مطبوعات إنترنتية لا علاقة لها بالورق على الإطلاق، وهؤلاء يعانون فصاما رهيبا، فضلا عن ارتباك الصحف الورقية نفسها أمام ثورة تتجاوز خططها، وقدرتها على تصور الحلول.

الجميع في حالة ضياع، وبحث عن السبل الجديدة التي تلائم العصر. ومن المفارقات المضحكة المبكية مثلا أن نسمع عن عشرات المدونين العرب الذين سجنوا وعذبوا، ومنهم من لا يزالون خلف القضبان، على اعتبار أنهم مؤثرون وخطيرون، ويؤلبون الرأي العام، لنقرأ في الدراسة البديعة التي أجرتها «مؤسسة الفكر العربي» ووزعتها، الخميس الماضي، في كتاب، أن 98 في المائة من المدونات العربية الموجودة على الشبكة العنكبوتية هي عمليا بلا زوار، وأشبه بالميتة، وأكثر من ذلك أن غالبية المدونين العرب يفتحون مدونات ثم سرعان ما يتركونها ويهجرونها، لتصبح رقما بلا قيمة تذكر. ولو صدرت هذه الدراسة قبل سنوات قليلة، لربما كانت وفرت عذابات على هؤلاء المدونين الذين كتبوا أشياء يبدو أنه لم يقرأها سوى الرقيب، حسبما يقال لنا اليوم، لكنهم انتهوا إلى الحبس. فقد تبين أن غالبية الجمهور الذي زار المدونات وقع عليها بالمصادفة، ومعظمهم ألقوا نظرة سريعة دون أن يقرأوا ويتمعنوا، ليخرجوا منها إلى غير رجعة، بعد أن اكتشفوا أنها لا تلبي حاجتهم في شيء.

على أي حال فإن هذه الدراسة التي دعمت بمرصد على الإنترنت تحت اسم «مأرب» وتحلل المحتوى الرقمي العربي حتى بداية عام 2012، يمكنها لو استكملت، أن تحولنا من عميان نتخبط في ظلام الجهل إلى شبه مبصرين.

فمما تقوله الدراسة إن مصر والسعودية هما البلدان العربيان اللذان يشكلان، بمساهماتها الكثيفة والقوية، أساس ما هو موجود بالعربية على الإنترنت. أما الكتلة الثالثة الوازنة فهي مساهمة المقيمين خارج الدول العربية، وربع هؤلاء موجودون في الولايات المتحدة. كما نكتشف أن المواد التعليمية والتربوية تنمو بشكل مطرد، لكنها لا تزال ضئيلة جدا، وهذا مثير للاهتمام.

ما هو مفيد معرفته، ليس فقط من يساهم ومن لا يساهم في تشكيل هذا المحتوى العربي، وإنما إدراك حقيقة ما يريده الناس، وما ينقصهم، بدل البقاء في حيز التخمينات وإطلاق الأحكام، وبناء أفكار واستراتيجيات على أوهام مضللة. فعدد كبير من المهن تبحث عن مخرج لمأزقها، وتتلمس طريقها إلى خلاص ما يوصلها بالناس الذين تستهدفهم. وقلة المعلومات والدراسات في العالم العربي، هي العائق الأكبر أمام تطوير مهن، مثل النشر والتعليم والصحافة، وحتى تأسيس شركات تجارية من قبل الناشئة من الشباب الذين يجهلون مزاج السوق. بتنا نعرف مثلا أن الجمهور يريد، إعلاميا، خلطة شهية خفيفة ومفيدة تجمع بين المرئي والمسموع والمكتوب، مقدمة بنفحة جمالية ذكية. وإذا عرفنا أن الغالبية الساحقة من الذين يبحرون على الإنترنت يتشوقون للأخبار الجديدة، عندها ندرك أنه لا يزال أمام الصحافة الطموح دور كبير بانتظارها، شرط أن يفهم الصحافيون قوانين اللعبة الجديدة وسر خلطتها الرقمية، وبعد أن نتمكن - كما تفعل كل الأمم الطامحة إلى النجاح - من دراسة مزاج جماهيرنا الغفيرة.