حول فكرة تقسيم العراق المثيرة للجدل

TT

«إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وضع الكتل السياسية بين خيارين يتمثلان في تقسيم البلاد أو الحرب الطائفية».

هذا ما قاله نائب عن التحالف الكردستاني لوكالة «السومرية نيوز»، الذي اتهم المالكي أيضا بـ«حمل أجندة تقسيم العراق». عداه فإن ممثلي ائتلاف «العراقية» السني وممثلي أطراف سياسية أخرى يوجهون التهمة نفسها وبأشكال مختلفة إلى رئيس الوزراء العراقي، الذي بدوره يواجه السنة والكرد بالتهمة نفسها. وهكذا راحت المفردة «التقسيم» تطغى بشكل لافت على دونها من المفردات هذه الأيام على المشهد السياسي العراقي خلال تصعيد بالأزمة العراقية التي ارتقت إلى مستوى الأزمات الدولية المزمنة التي تهدد السلم الإقليمي والعالمي بالخطر، بعد أن جعلت السلم الأهلي في خبر كان.

وراحت المفردة تجثم ككابوس على صدور العراقيين، ما يستدعي إيجاد حل يحول دون نشوب حرب أهلية، يشارك فيها الجميع ويحترق فيها الجميع. والراصد لصراع المكونات: الشيعة والسنة والكرد، يرى توجهها للبحث عن حلول سبق أن تكللت بالفشل، مع نفيها الدائم لحل صائب ووحيد كفيل بوضع حد للمعاناة العراقية، الذي نأتي على ذكره لاحقا. فالشيعة لأجل إحكام قبضتهم على مقاليد الأمور يعزفون على وتر العراق الموحد ورد التقسيم، وهذا عين ما كان يفعله الحكام العراقيون السابقون بوجه المطالب القومية للكرد، بينما يرفض السنة نظام الأقاليم والفيدرالية، نزولا عند حلم يزين لهم استرداد السلطة التي آلت إلى الشيعة منذ عام 2003 وبدعم مزدوج أميركي وإيراني، وأفصحوا عن الحلم بدعوات إلى إسقاط حكومة المالكي من غير أن يضعوا ببالهم أن إسقاطها يستلزم توفر شرطين، الأول أن يقوم فصيل في العسكر الشيعي بإنجاز إسقاط الحكومة الشيعية، لأن إسقاط الحكومة يتم على يد العسكر التابع للمكون الحاكم، وتاريخ حكم السنة في العراق زاخر بالأمثلة على ذلك، فالنظام السني الملكي أزيح عام 1958 على يد انقلاب عسكري سني، وأسقطت الحكومات العراقية السنية في أعوام: 1963 و1963 و1968 من قبل الجيش السني التابع للمكون السني.

وهكذا فإن قلب الحكومات العراقية في الماضي كان هما وصناعة سنيين، ولقد أدرك الكرد في وقت مبكر هذه الحقيقة، عندما لم ينادوا بإسقاط الحكومات العراقية وفضلوا المطالبة بحقوقهم القومية لا غير، وحسنا فعلوا ذلك، فالحركات القومية لا ترفع شعار إسقاط السلطة سواء أكانت سلطة احتلال أو سلطة وطنية، وتركز فقط على انتزاع حقوقها الوطنية من المقابل الحاكم، ولا ننسَ أن سنة العراق صاروا في موضع الكرد منذ عام 2003.

أما الشرط الثاني لإسقاطها فهو التدخل الخارجي، فلولا الاحتلال البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى لما كان بوسع العراقيين الاستقلال عن العثمانيين، ولولا الولايات المتحدة لما كان متوقعا انهيار حكومة ونظام السنة عام 2003 ويقوم محلهما نظام وحكومة شيعيان بدعم مزدوج أميركي وإيراني كما أسلفنا، ولن يغير من وضع السنة والكرد شيئا استبدال حكم آخر بحكم المالكي، وهذا الحكم الآخر سيكون شيعيا حتما، مثلما لم يغير من وضع الكرد والشيعة استبدال حكومات سنية بأخرى سنية في الماضي، وعلى السنة والكرد أن لا يراهنوا على الخلافات الشيعية - الشيعية، فالفصائل الشيعية مهما استفحل الخلاف بينها فإنها تبقى متفقة وموحدة بوجه السنة والكرد.

عبثا يحاول الكرد حمل الحكومة العراقية لتطبيق المادة 140 الدستورية بالأساليب القانونية، والأكثر عبثية أن يحقق السنة حلمهم المستحيل في استرداد الحكم الذي فقدوه عبر الرهان على مظاهراتهم، بعد أن صاروا في الموقع نفسه الذي كان عليه الكرد والشيعة في السابق، وسوف تتراجع قضية السنة العادلة ما لم يتخلصوا من وهم استرداد السلطة، ويطلبوا بدلا من ذلك دولة عربية سنية في وطنهم الذي اصطلح على تسميته بالمثلث السني. وفي حال إصرارهم على حلمهم فسيفقدون آنذاك كامل مثلثهم ويلجون نفقا مظلما إلى أجل غير منظور. وسيكون حالهم حال السنة كردا وبلوشا وغيرهما في إيران وبئس الحال.

لم يكن التقسيم أبدا مطلبا استعماريا أو إسرائيليا، وأضيف ولا إيرانيا أو تركيا كما يدعي بعضهم عن جهل وخطأ، والأصح أن نقيضه كان ولا يزال، أي الوحدة، المطلب الذي لا يحيدون عنه، وصار شعارهم «وَحِّد تَسُد» وليس «فَرِّق تَسُد»، ولو أرادت تلك الأطراف تقسيم العراق لكانت قد نجحت في ذلك أيما نجاح وقبل عقود. ويقدم المتشبثون بالوحدة العراقية من شيعة وسنة خدمة لا تقدر بثمن إلى تلك الأطراف.

لقد أسس الإنجليز الدولة المصطنعة العراق وفرضوا الوحدة القسرية على شعوبها، وبسببها نشبت الحروب والمنازعات ودامت في ما بينها وإلى يومنا هذا، وحال الأميركان يوم احتلالهم للعراق عام 2003 دون تفكيك تلك الوحدة، حتى الفيدرالية للعراق عندهم بمثابة أبغض الحلال، وما دام بقي العراقيون من شيعة وسنة، والكرد بشيء من الاستحياء وعن غير قناعة، رافضين للتقسيم، فإنهم وبالأخص الشيعة والسنة بذلك ينفذون مطلب تلك الأطراف الدولية والإقليمية من حيث لا يشعرون.

إن الشيعة والسنة وعراقيين آخرين إذ يلتقون في الموقف من التقسيم فإنهم يفضلون تلقائيا الحرب الأهلية عليه، حتى إذا طالت عقودا أخرى من السنين وتسبب في جعل الدماء تسيل جداول وأنهارا، من غير أن يلتفتوا إلى التجارب الانفصالية الاستقلالية على صعيد العالم التي لا تحصى مثل تقسيم الاتحاد السوفياتي وجيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، فانفصال تيمور الشرقية عن اندنوسيا وجنوب السودان عن شماله وقبلهما ناميبيا عن جنوب أفريقيا وإريتريا عن إثيوبيا - وهناك حراك انفصالي في قلب أوروبا وكندا... إلخ. لذا فعلى العراقيين أن يختاروا أحد الاثنين، إما التقسيم ومن ثم السير على خطى التجارب الانفصالية أعلاه والتي وضعت حدا للحروب في بعض من تلك الأقطار أو فوتت الفرصة على اندلاعها في أقطار أخرى، وإما الحرب الأهلية.

وأرى أن العراقيين وصلوا إلى حالة لا يطيق بعضهم بعضا بعد كل الذي جرى ويجري، وهيهات أن يحل يوم يكونون فيه متساوين أمام القانون وكأسنان المشط أو «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». لذا أرى أن العراقيين في الوقت الذي يردون فيه التقسيم، عليهم أن يعلموا أن كلا من إيران وتركيا قد قطعتا شوطا كبيرا باتجاه تقسيم العراق في ما بينهما وحققتا إلى الآن نجاحا لا يستهان به، وبالنتيجة سيكون المتضرر الأول والأخير الشعوب العراقية من وراء تنامي نفوذ القوتين الإقليميتين على العراق، فتقسيمه بشكل مباشر أو غير مباشر عليهما، ولقد أعذر من أنذر.

* كاتب سياسي - العراق.