شرعية النظام السوري.. الحبل الممدود الذي يجب أن يقطع

TT

كثيرا ما تقول المعارضة السورية وتطلق في المنابر الإعلامية أن النظام السوري قد فقد شرعيته بعد أن أطلق النار على مواطنيه، مما يوحي وكأن النظام السوري كان يتمتع بشرعية نابعة أصلا من الداخل، أي من مواطنيه أنفسهم، وأنه كان دائما حريصا كل الحرص على تثبيتها وتعزيزها وعدم فقدانها، حتى لا يكون في موقف حرج أمام نفسه وأمام العالم.

والحقيقية هي أن شرعية النظام السوري منذ قيامه لم تكن أبدا داخلية محلية متمثلة في تأييد شعبي حقيقي، وإنما كانت خارجية تعتمد على عوامل وأطروحات خارج الحدود الوطنية للدولة مثل القومية العربية والوحدة العربية وجبهة الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة وما إلى ذلك.

لم يكن لحافظ الأسد ومن معه أن يجرؤوا على حكم سوريا لولا تلحفهم بغطاء القومية العربية والمقاومة والعداء لإسرائيل، أي اكتساب الشرعية من خلال تبني أيديولوجيات وطروحات تحقق ما يصبو إليه الشعب من أهداف خارج نطاق الدولة الوطنية. فالشعوب العربية في مرحلة الخمسينات والستينات إلى نهاية الثمانينات كانت متأججة عاطفيا بفكرة القومية والوحدة والنضال والصمود والتصدي. وكانت فعلا مقتنعة بأن أولى الأولويات هي الصمود في وجه إسرائيل وتحرير الأراضي المغتصبة. أما ما يصبو إليه الشعب داخل حدود الدولة من تعددية حزبية أو انتخابات حرة أو تمثيل نيابي حقيقي أو الاعتراف بحقوق غير العرب فكان يعتبر عمالة وزندقة سياسية تستوجب القتل أو النفي. لكن بعد أن خبت فكرة القومية العربية وانكفأت الدول العربية على ذاتها وبدأ مشروع السلام مع إسرائيل، كان لا بد من حبل تتمسك به شرعية النظام السوري وينقذها من السقوط. فكانت فكرة خلق حركات مقاومة لإسرائيل كما هو حال حزب الله أو دعم مثل هذه الحركات كما هو الحال بالنسبة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.

إن عدم المعرفة بحقيقة ومصادر شرعية النظام السوري قد أوقع المعارضة السياسية السورية في مآزق جمة قبل الثورة وبعدها فخلال أحداث ربيع دمشق، اتهم العماد مصطفى طلاس الموقعين على بيان لجان إحياء المجتمع المدني بالعمالة، لأنهم لم يتطرقوا إلى الصراع العربي الإسرائيلي في بيانهم. وذلك كان خطأ استراتيجيا منهم بلا ريب، استغله النظام في تعزيز شرعيته. كثير من المعارضين السوريين عقدوا لقاءات مع مسؤولين أميركيين منذ ربيع دمشق ولبوا دعوات السفارة الأميركية في دمشق للاحتفال بذكرى استقلالها والقيام بزيارتها أيضا. وزاد الطين بلة عندما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين تعليق نشاطها المعارض ضد النظام خلال الحرب على غزة عام 2008. كل هذه المواقف والنشاطات كانت تزيد من شرعية النظام وتعطيه دفعة جديدة من الصمود والوقوف ليس في وجه إسرائيل، بل في وجه مواطنيه ومعارضيه. وهذا ما يجعله يستثمر في الشرعية أشد استثمار حتى آخر يوم من أيامه وفي حين أن استثمار المعارضة في هذا المجال يكاد لا يذكر.

إن المراقب لموقف الولايات المتحدة تجاه سوريا منذ بداية السبعينات يلاحظ كيف أنها أطلقت اليد للنظام بعد ترسيخ شرعيته في تصفية كل معارضيه في الداخل والخارج، والتهمة كانت دائما هي العمالة والتواصل مع أطراف خارجية. وأنها أي الولايات المتحدة لم تدعم يوما أي طرف من المعارضة السياسية السورية إلا بما يعزز شرعية النظام السوري في المقاومة والممانعة. والاستثناء الوحيد لهذه العلاقة كان بعد الحرب الأميركية على العراق في عام 2003 عندما كانت الولايات المتحدة تنوي فعلا غزو سوريا ، لكن المقاومة العراقية عطلت المشروع الأميركي في المنطقة. وعادت بعدها العلاقات الأميركية السورية إلى طبيعتها المعهودة وإلى مجاريها الآسنة.

بعد قيام الثورة السورية، كان الوقت مهما للنظام أكثر من أي وقت مضى في ترسيخ شرعيته واتخاذها الرادع الأقوى في مواجهة قوى الثورة الجارفة، وفعلا استطاع فعل ذلك لأكثر من سنة، من خلال احتواء حركة المقاومة الإسلامية حماس والضغط عليها ومن خلال خطابات حسن نصر الله التي كان يؤكد فيها وباستمرار على أن استهداف النظام السوري هو استهداف لمشروع المقاومة والممانعة بما يحقق أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وتم تلفيق تصريح خطير لرئيس المجلس الوطني وقتها الدكتور برهان غليون بأنه بعد إسقاط النظام سيتم قطع العلاقات مع حزب الله وطرد حركة حماس من دمشق مما أثار حفيظة الكثيرين من العرب والمسلمين حيال الثورة السورية وأجندة المعارضة السورية.

لكن المعارضة السياسية بأفعالها كما بأقوالها قد ساهمت فعليا بشكل أو بآخر في دعم شرعية النظام السوري وذلك من خلال اللقاءات العلنية مع بعض الشخصيات الأميركية والأوروبية والمعروفة بصهيونيتها وبعدائها للقضية الفلسطينية والتقاط الصور معهم ونشرها على الصفحات الإعلامية فخرا واعتزازا بتلك اللقاءات والإنجازات.

لقد كان الموقف من إسرائيل أكبر مأزق للمعارضة السياسية، إذ لم تستطع إدارته بشكل جيد، وتجلى ذلك واضحا من خلال فشلها في إدانة الاعتداء الإسرائيلي الأخير على سوريا بالشكل المطلوب خصوصا في هذه المرحلة. لقد انشغلت في السخرية من النظام حول تذرعه الدائم بعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. والنظام استفاد كثيرا من مأزق المعارضة هذا، مما دفعه إلى وضع شرط مسبق للحوار معها وهو توضيح موقفها من الاعتداء الإسرائيلي على سوريا.

إن الوقوع في هذه الأخطاء الكبيرة يدل على الضعف في فهم أسس شرعية النظام السوري وعوامل بقائه واستمراريته. حتى حزب الله في لبنان بدأ أول ما بدأ به هو بناء الشرعية، شرعية المقاومة، فمن ذا الذي يستطيع نقد المقاومة أو يخالف سيدها سوى عميل أميركي صهيوني؟ وتحت ظل هذه الشرعية غزا حزب الله بيروت وحكم الدولة وفعل الأفاعيل في لبنان وخارجها.

الكثيرون يقولون بأن النظام السوري وحزب الله قد تغيرا، جهلا منهم بأن ما كان يقوم به النظام السوري وحزب الله طوال الفترة الماضية هو بناء الشرعية من أجل هذا اليوم. والشرعية تتطلب عداء إسرائيل وربما قتل إسرائيليين. وهذه هي السياسية الإسرائيلية في صنع العملاء. فلا ضير في أن تضحي إسرائيل بحفنة من جنودها ومواطنيها في سبيل ضمان أمنها على المدى البعيد.

إن أولى الخطوات التي يجب اتخاذها ضد هذا النظام هي نزع شريعته التي تغطى بها منذ نشأته الأولى وسحر أعين الناس بها، ونزع الشرعية عنه تكون من خلال مواقف ونشاطات المعارضة لا من خلال تتبع زلات النظام. لذلك على المعارضة أن تتبنى مواقف أشد صرامة وأكثر جدية حول الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا وفلسطين، وحول الأسرى الفلسطينيين والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وأيضا إدانة التدخل الإيراني في العراق كما في سوريا، بما يضع النظام في أزمة مع شرعيته أمام السوريين وغيرهم.

إن المعارضة السياسية متخوفة من أن مثل هذه المواقف قد تستجلب عليها مواقف عدائية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهذا لعمري اجتهاد خاطئ، إن لم يكن كارثيا يزيد عناءنا عناء. لقد فات معارضينا بأن الدول الكبرى هي من أسس للديكتاتوريات وللأنظمة القمعية في بلادنا، فكيف نصدق تعهداتهم في دعم الحريات والتحولات الديمقراطية في العالم العربي؟ وكيف ننتظر منهم دعم ثورات الحرية والكرامة؟ وهم الداعمون للأنظمة التي سلبت كرامتنا ونهبت بلادنا وصادرت حرياتنا فالذي يستشعر ويستشف مآلات الثورة السورية على المنطقة والعالم، يعلم تماما بأن الشعب السوري حتى ولو رفع الأعلام الأميركية والأوروبية في مظاهراته وفي معاركه ضد النظام فلن يستجلب أي مواقف دولية مهمة تؤيد ثورته وتدعم حقه في استرداد كرامته وحريته.