العصر الليبرالي الثاني!

TT

الأمم التي تتقدم عادة توجد بها خاصيتان: أنها تريد فعلا أن تتقدم ومن ثم تعرف أن عليها أن تدفع ثمنا كبيرا لكي تحقق هذا التقدم، كذلك أنها على استعداد للتعلم من أخطائها، وهو ما يعني أن تعترف بأن لها أخطاء وخطايا أحيانا، ومن ثم فإنها على استعداد لعدم تكرارها مرة أخرى. لا نخوض طويلا في معنى التقدم وأبعاده الفلسفية وعما إذا كان في النهاية يؤدي إلى سعادة الإنسان أم لا، فمثل ذلك سوف نتركه لعلماء الاجتماع، ويكفينا عند هذه اللحظة أن نأخذ ما توافق عليه العالم عن قائمة الدول المتقدمة والتي هي صناعية وتنتج التكنولوجيا وأهلها جميعا متعلمون بالمعنى القديم - إجادة القراءة والكتابة ومبادئ الحساب - وبالمعنى الجديد أيضا حيث يجيد الناس استخدام الحاسب الآلي وتوابعه، كما أنهم يتمتعون بقدر من الصحة يجعلهم يعيشون لأكثر من 75 عاما، ولديهم من الدخل ما يكفل الستر في السكن والملبس والاتصالات. هناك قرابة ثمانين دولة من دول العالم تنطبق عليها هذه الأوصاف والغالبية الساحقة منها ديمقراطية تتمتع بحريات أساسية في التعبير والمساواة بين البشر من دون تمييز على أساس من العرق أو الدين أو اللون أو العقيدة.

أعتقد أنك عرفت ما أعني، وهو أمر لن يهم من يتذرع بخصوصية من نوع أو آخر، ولكن هذه الخصوصية إذا كانت موجودة ربما تعبر عن مرحلة تاريخية وليس تفردا من أي نوع لأنها لم تبدع نموذجا آخر للتقدم يمكن تقديمه للإنسانية. وما حاولته الشيوعية والنازية وولاية الفقيه في إيران لم يكن جذابا إلا للحظات بعدها ذهب السحر وظهر أن وضع البشر في قالب واحد هو عودة للبشرية وليس تقدما بها حيث الخيارات الكثيرة مفتوحة، والمبادرة متاحة، والعلم ذائع لمن يريد القراءة، والثروة ممكنة لمن يريد العمل والاجتهاد. والطريق إلى ذلك بين الدول العربية جاء به العصر الليبرالي الأول خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حينما سقطت الخلافة العثمانية من ناحية، وبدأت أفكار عصر النهضة في القرن التاسع عشر تعطي ثمارها بظهور جماعة «الأفندية» والمثقفين من خريجي الجامعات المدنية، وظهور الحركات النسائية، والشبكات الصناعية والمالية والتجارية.

وباختصار دخلت بعض الدول العربية مثل مصر والعراق ولبنان وسوريا وتونس بعضا من تجارب ظهور الأحزاب السياسية، والانتخابات البرلمانية، والدساتير الحاكمة، وعرفت تبلور ظاهرة «الدولة» ككيان معنوي يقوم على مؤسسات وجهاز إداري وسلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية لها كيانها المستقل نسبيا عن الأبنية الاجتماعية والاقتصادية. لم يكن في أي من ذلك فناء للقبيلة أو العائلة أو الشريحة الاجتماعية، ولكن الأوعية التي بات عليها أن تضم كل ذلك باتت مختلفة عن الولاءات البطريركية أو القبلية أو الطائفية التقليدية. جرت التجربة في عدد محدود من الدول العربية على أي حال، ولكن لم يأت منتصف القرن حتى كان العصر الليبرالي الأول قد وصل إلى نهايته بالثورات والانقلابات التي راحت تكيل له التهم من أول العجز عن تحقيق الاستقلال الوطني، والفشل في تحقيق التقدم، وحتى الهزيمة عند التعامل مع القضية الفلسطينية.

سقط العصر الليبرالي الأول لأسباب كثيرة ليس هنا مكان البحث فيها، ولكن واحدا منها لم يلق العناية الكافية، وهو أن ليبراليته من ناحية اقتصرت على الديمقراطية، وهذه من ناحية أخرى اقتصرت على إجراءاتها التمثيلية للشعب. وباختصار غلب على النموذج السياسي للعصر الليبرالي الأول الآلية التي يأتي بها الناس إلى السلطة، أما ديناميات هذه العملية من تفاعلات تستهدف استكمال الشروط من تصنيع تعليم وصحة وتكوين تنظيمات المجتمع المدني الأفقية التي تتخطى الطائفة والقبيلة والجماعة الإقليمية، واستيعاب الحركات الجماهيرية الواسعة في إطار من القيم الليبرالية، فظلت بعيدة بعد السماء السابعة.

وهكذا، لم يتم استكمال السياسة بشروطها التي تجعلها بالفعل ليبرالية، ولذلك لم تكن صدفة أن العصر الليبرالي الأول لم يستمر وتوقف قلبه عن الخفقان خلال الخمسينات من القرن الماضي حتى بات منبوذا ملعونا، في مواجهة ثورات قوية وعفية لجنرالات يعرفون كيف يحرقون المراحل ويأخذون المجتمعات العربية نحو الرخاء والعدالة والتحرر، والكرامة فوق كل ذلك، أو هكذا شاع القول.

كل ذلك ثبت خطؤه ولكنه بالقوة والقدرة والخديعة استمر لستة عقود رغم الهزيمة والفشل ربما لأنه لم ينجح في شيء قدر نزع الشرعية عن الليبرالية حتى لم تعد بديلا للحكم القائم، فكانت النتيجة أن أصبحت أشكال الإسلاموية السياسية هي البديل المتاح بالقوة المسلحة أو من خلال صناديق الانتخاب. ظهر ذلك فاضحا عندما انهارت دول البيروقراطيات العسكرية الواحدة تلو الأخرى مع الهبات الجماهيرية للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين التي ذاع تسميتها بـ«الربيع العربي» الذي سرعان ما ثبت أنه ليس ربيعا على الإطلاق.

وسواء كان الأمر جاريا في تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن أو بعض الدول الأخرى، فإن الصيغة التي انبثقت كانت صورة مشوهة للعصر الليبرالي الأول، ولا يوجد ما يشير إلى تعلمه من أخطائه التي قادته من ليبراليته إلى أبواب الفاشية من دون المرور بمرحلة الحريات السياسية وانطلاقات المبادرة الفردية. فما تبقى في العلم السياسي العربي من التجربة السابقة إلا إغراقها في الديمقراطية الإجرائية القائمة على دستور وانتخابات وصناديق مع غياب لكل الآليات الأخرى الضرورية لمنع الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية من الإحاطة بالإجراءات وتحويلها إلى مسار سلطوي. ومن الغريب والمدهش معا، أن الأبنية الثورية والديمقراطية الحديثة عملت بدأب على تدمير الطبقة الصناعية التي تراكم وجودها خلال قرن من الزمان تحت شعار محاربة الفساد، وتدمير المجتمع المدني ومؤسساته تحت راية التمويل الأجنبي. أما الحركات الجماهيرية فقد تولت أمرها بنفسها عندما تحولت من حركات جماهيرية تدافع عن حقوق الجماهير إلى جماعات عنف لا تعرف ما تريد، وإذا عرفت فإن له صلة - كما في الحالة المصرية - بمجال كرة القدم أكثر منه بمجال السياسة.

لم يتعلم أحد من العصر الليبرالي الأول، وحينما جاء العصر الليبرالي الثاني فإنه ابتكر أشكالا جديدة من الرفض الجماهيري لإجراءات الديمقراطية تمثل في ضعف المشاركة الانتخابية وفوقها ذيوع عدم الاستقرار والفوضى والعنف والبلطجة. وباختصار فإن العصر الليبرالي الثاني انتهى قبل أن يبدأ حتى ولو ظل حلما يداعب خيال جماعات صغيرة لا تزال تعتقد في الفكرة وما قدمته للحضارة الإنسانية.