عقلنة الثورة!

TT

قال حكيم صيني قديم هو صان تسو ما معناه: هناك قانون للحرب يمكن تسميته «قانون الجهد العقلاني»، يدعو للالتزام بأن يكون عائد أي جهد بشري متكافئا مع حجمه ونمطه، وإلا فإن بذله لا يكون مسوغا بل يعتبر جهدا ضائعا. بالتزامك بهذا القانون، أنت لا تسمح لنفسك مثلا بإطلاق نيران مدفع على ذبابة، ولا تهش جيشا معاديا بكشاشة ذباب، لأنه ستكون هناك في الحالتين نتائج لا تبرر جهدك، وتجعل بذله ضربا من حماقة ستتكلل حتما بالفشل.

هذا القانون يسري على كل شيء. إن مدخلاته هي الجهد ومخرجاته هي النتائج التي تنجم عنه، فإن كان هناك تعادل بينهما جاز بذله، وإلا كان جهدا ضائعا. بكلمات أخرى: عندما يقتل في معركة ثلاثة أضعاف العدد الضروري لكسبها، يصير ممكنا القول: إن الجيش الذي تكبد هذا العدد المبالغ به من الخسائر هو إما سيئ التخطيط، أو التدريب، أو التجهيز، أو التنسيق، أو القيادة. ولهذا توجد هوة بين ما بذله من تضحيات وما حققه من نتائج. ولو كان القائمون عليه حريصين على جنودهم لما كبدوهم هذا الحجم من الخسائر، الذي لم يكن ضروريا لتحقيق الانتصار، لو اختلف تخطيطه وتدريبه وتجهيزه وتنسيقه وكانت قيادته عقلانية تمتلك علاقة موضوعية ومتوازنة بين الجهد المبذول من قبل جندها وعائده. يخبرنا التاريخ: أن قادة سياسيين وعسكريين فقدوا مراكزهم وحوكموا بسبب لاعقلانية أفعالهم، وأن اقتصادات انهارت نتيجة الفارق بين ما كان يبذل فيها من مال وجهد وبين ما تعطيه من عائد، أي لأن مدخلاتها كانت أكبر من مخرجاتها.

هناك من المفكرين من اعتبر العلاقة بين حدي هذا القانون معيارا يقاس من خلاله نجاح أو فشل أي فعل أو عمل إنساني، بينما لاحظ آخرون وجود هذا القانون حتى في الطبيعة، حيث تحكم الغرائز السلوك وتوجهه، ودللوا على صحة رأيهم بالقول: إن أحدا لم ير جماعة من الأسود تهاجم فأرا أو تنصب له كمينا، ولم يتح لأحد رؤية جماعة من اللصوص يخططون لسرقة متسول فقير ومشرد.

أسوق هذه الأفكار بمناسبة حديث سمعته من أحد خبراء الاستراتيجية والصراعات المسلحة، أكد فيه أن خسائر الثوار السوريين كبيرة بالمقارنة مع حققوه على الأرض، وأنها كانت تكفي لبلوغ إنجازات أكبر بكثير من تلك التي تم الوصول إليها. هذا الخبير أعاد كثرة خسائر المقاومين إلى عامل جوهري هو افتقارهم، رغم ما يمتلكونه من شجاعة، إلى الوحدة، وحسن القيادة والتنسيق فيما بينهم في آن معا.

صحيح أن قصة السلاح تلعب دورا في هذا السياق، وخاصة في ظل افتقار المقاتلين إلى غطاء جوي وأسلحة مضادة للدروع ومدفعية، إلا أن حروبا مماثلة دارت بين مقاتلين يشبه وضعهم أوضاع مقاتلي الجيش الحر، وقوات مدججة بالسلاح الحديث كقوات النظام الأسدي، كانت أقل تكلفة من الحرب الدائرة اليوم على الأرض السورية، لأن هؤلاء المقاتلين أفادوا من إجراءات الحرب السلبية كالتحصينات والحفر ومراكز الحماية المسبقة الإعداد والعمليات العسكرية القادرة على تشتيت جهد عدوها وتغطية مجمل ساحات المواجهة معه.. الخ.

ملخص القول: لا بد من عقلنة العمل الثوري لجعله أقل تكلفة مما هو عليه اليوم، ولإقامة نوع من التوازن المقبول بين التضحيات المبذولة فيه والنتائج العملية المترتبة عليه، وهو مفقود اليوم، وبصورة خاصة بعد دخول الوضع الميداني في حال من الركود الأرضي المصحوب بتصاعد أعداد ضحايا العنف الرسمي من المقاتلين والسكان، الذي بدأ يترجم نفسه إلى ما يشبه عجلات سيارة تدور في فراغ وتعجز عن تحريكها رغم تسارع دورانها وتعاظم الضغوط على محركها وهيكلها. وللعلم، فإنه لا مجال لعقلنة هذا العمل بغير توحيد القوى المقاتلة على الأرض، وإقامة تنسيق منظم وعلاقات إمرة وانضباط بينها، وإخضاعها لقيادة موحدة وغرفة عمليات مركزية تتلقى الأوامر منها وتشرف على تحركاتها ومعاركها، فالوحدة بين المقاتلين وهيكلة عملهم وتنظيمه عوامل غدت مصيرية بالنسبة إلى الثورة والشعب، لكونها تستطيع امتصاص الكثير من النتائج السلبية الناجمة عن تمزق المعارضة السياسية وتشتتها التنظيمي، ولأن الجيش الحر هو قوة الثورة التي يتوقف مصيرها على سلامة أدائها، المرتبط بين أشياء أخرى بالحرص على حياة المقاتلين وبالعمل على تجنيبهم عمليات لا لزوم لها، ومخاطر لا قبل لهم بمواجهتها، تنبع جميعها من افتقار العمل المقاوم والسياسي إلى العقلانية، التي تجعل منه عملا فاعلا وناجحا بأقل قدر من الخسائر والتضحيات.

تقف سوريا اليوم عند نقطة مفصلية من تطورها، ستذهب في أعقابها إما إلى ما بعد الاستبداد ونظامه، إن هي عقلنت نضالها ضده، أو إلى ما بعد دولتها ومجتمعها الحاليين، في حال أخفقت في دحر الاستبداد والتخلص منه. بهذا المعنى، ليست عقلنة نضالها ترفا أو تضييع وقت، كما قد يعتقد كثيرون، بل هي خيار قدري لا بد من اتخاذه، إن كنا نريد تحقيق أهدافنا في الحرية والعدالة وحفظ كرامة مواطننا وشعبنا. إلى هذا، تعتبر اللحظة الراهنة ملائمة لعقلنة دورنا في صراع يقترب تدريجيا من الحسم، ستمس حاجتنا بعده إلى أعلى درجات التطابق بين جهودنا والنتائج العملية التي ستترتب ميدانيا عليها، كي لا تطول معاناة الشعب وينتابه الشعور بأن تضحياته لم تقابل بما تستحقه من رعاية، في حال سمحنا لأجواء التسيب والفوضى السائدة اليوم في المجال المقاوم بالتسلل إلى إدارة شؤوننا في المرحلة التالية للنظام.

لم يفت الوقت بعد لعقلنة عملنا، فالنظام لم ولن يقرر وقف حلوله الحربية، والشعب لن يتخلى عن حقه في المقاومة قبل تحقيق أهدافه. وعلى الجملة: أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا، كما تقول الحكمة المعروفة!