من يخطط لـ«الجيش السوري الحر»؟

TT

على مدى الأيام القليلة الماضية، شنت قوات النظام في سوريا هجمات عنيفة على الجزء المحرر من مدينة حمص، بهدف تعزيز السيطرة على طريق المواصلات بين دمشق ومناطق الساحل، ليس لتأمين تدفق المواد إلى العاصمة فحسب، بل لتأمين طريق انسحاب إلى مناطق المجابهة الأخيرة، في حالة تمكن الثوار من انتزاع السيطرة على العاصمة، خصوصا أن معظم قوات النخبة الموالية للنظام تنتشر في دمشق، ويشكل عزلها إحباطا كبيرا لمشاريع دولة الساحل، ويتسبب في انهيار خطط المجابهة في مناطق العمليات البعيدة والقريبة على حد سواء.

ومع المراحل الأولى لهجمات قوات النظام، أمكن تحقيق مكاسب نسبية، تتطلب وفق «الحسابات العسكرية التقليدية» قيام قوات «الجيش الحر» بتعزيز كتائب حمص بقوات إضافية من مناطق العمليات الأخرى، إلا أن الذي حدث جاء بطريقة مختلفة عن السياقات التقليدية الجامدة، فقد عزز الثوار قتالهم في مدينة دمشق، وصولا إلى مسافة تبعد نحو 300 متر عن ساحة العباسيين في قلب دمشق. حيث رصد مقر عمليات متقدم لألوية الثوار في هذه المنطقة المتقدمة جدا، واعتبر هذا النشاط تطورا خطيرا يهدد أمن النظام في العاصمة، يتطلب وقف إرسال التعزيزات القتالية النظامية وغيرها إلى عمليات حمص، وهو ما يتيح الفرصة لاستعادة المبادأة من قبل الثوار، التي تحققت فعلا باستعادة مناطق مهمة من حمص، فقدها الثوار في معارك سابقة قبل بضعة أشهر.

أما الضربة الثانية فجاءت خارج حسابات أجهزة الأمن والاستخبارات، حيث تمكنت كتائب المسلحين من «خداع» منظومة الدفاع عن حماية محافظة الرقة، والسيطرة عليها - بما في ذلك فروع الأمن والاستخبارات - خلال بضع ساعات، ومن دون تضحيات بشرية تذكر، مسجلين تقدما كبيرا، يدل على وجود جهاز مراقبة وتخطيط مركزي، يستند إلى عقول استخبارات وحرب نفسية مميزة، في وقت كان النظام منشغلا في عمليات طرد قواته من منفذ اليعربية المجاور للعراق. فحقق مخططو الكتائب المسلحة تقدما تجاه نظرائهم في قوات النظام وأجهزته، على الرغم من أن منطقة الرقة لم تكن ساخنة كثيرا خلال سنتي الثورة.

وأثبتت المعارك الأخيرة تطور عمليات التخطيط على المستوى الاستراتيجي، ولم يجرِ تسليط الضوء على قيادات التخطيط العسكري، فمعظم الضباط الذين كانوا يتصدرون التصريحات من مواقع مختلفة اختفوا فجأة، باستثناء العقيد عبد الجبار العكيدي رئيس المجلس العسكري لمنطقة حلب، مع تصاعد ظهور رئيس هيئة الأركان العميد سليم، كحالة صحية، إذا ما كانت مبنية على أساس توحيد القيادة العليا، وليس بسبب رجحان كفة المتشددين، وهو ما يقتضي توضيحه من قبل هيئة أركان «الجيش الحر»، دفعا للتفسيرات الخاطئة. وبصرف النظر عن الخوض في التكهنات عن الجهة التي تتولى التخطيط بهذه الكفاءة العالية، فإن أهل الشام عموما، وضباط الركن الذين عملوا في الجيش خصوصا، هم الأكثر دراية بأسلوب إدارة العمليات من قبل القيادات النظامية، فأحسنوا قراءة خطط النظام وردود الفعل، وأتقنوا وضع الخطط، ومتابعة المتغيرات الآنية التي يفرضها سير العمليات المسلحة.

ومن اللافت عدم توقف العمليات في أي منطقة، على طول الأراضي السورية وعرضها، بسبب نقص في العتاد، ويعكس هذا نقاطا عدة تستحق الاهتمام، من بينها قدرة النظام على الحصول على كميات ضخمة من العتاد خارج موارده الذاتية. لذلك، فإنه يشدد الحرص على بقاء طريق حمص مفتوحا، وحدوث ضعف شديد في إجراءاته الأمنية، بما أتاح فرصا جيدة لقوات «الجيش الحر» لنقل العتاد إلى دمشق، وهو دليل حاسم في حسابات تقييم احتمالات المستقبل. إلا أنني لست ميالا إلى الأخذ بما يقال عن قيام العراق بتزويد سلطة دمشق بالعتاد، لأن حركة كهذه لا يمكن إخفاؤها تحت أي ظرف عن أبناء مناطق غرب العراق المؤيدين بشكل تام ومطلق للثورة السورية.

إن مباغتة الثوار للنظام على غرار ما حدث في الأسبوع الماضي سيؤدي إلى تطورات تدخل كعناصر لتسريع الحسم. وكلما فتحت الثورة ذراعيها أمام كبار الضباط المنشقين من دون استثناء - إلا ما يتعلق بمستلزمات الأمن - يمكن مشاهدة نقلات نوعية أخرى في تخطيط العمليات وإدارتها. فتجبر قيادة النظام على التفكير في المغادرة، ويتسع نطاق الانشقاقات، وتتآكل قوات النظام، فتتقلص الفترة المطلوبة لإنهاء واحدة من كبرى حالات المعاناة البشرية القاسية.