والمدينة المنورة أيضا.. فمنها انبثقت نهضة التنوير للعالم

TT

هو (مهرجان حضاري ثقافي: إسلامي إنساني عالمي كوكبي) شهدته المدينة المنورة في الأسبوع الماضي.

فقد شهدت تدشين التوسعة الكبرى للمسجد النبوي الشريف التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.

وشهدت انفتاح موسم (المدينة المنورة عاصمة الثقافة الإسلامية) لهذا العام.

ولقد رعى المناسبتين الكبيرتين الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، الذي قال – في بدء فاعليات «المدينة عاصمة الثقافة الإسلامية»: «إن هذه البلاد شرفها الله بخدمة المسلمين. وقد نزل فيها القرآن الكريم بلسان عربي مبين في مكة المكرمة قبلة المسلمين. ونحن الآن في بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنقل لكم تحيات سيدي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله.. نعم، نحن الآن في مدينة الرسول ومهجره بلاد الأنصار والمهاجرين – رضي الله عنهم، البلد الذي انطلقت منه الرسالة الإسلامية لكل أنحاء العالم وكانت بلاد خير وبركة للعقيدة السمحة.. وللمملكة العربية السعودية الشرف الكبير بأن تولي اهتمامها وعنايتها لخدمة الحرمين الشريفين منذ عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله. وقد نهض بهذا الشرف أبناؤه من بعده. وها هو سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله يولي اهتماما لكل ما فيه رقي بلاده، وبالخصوص الحرمان الشريفان.. أقول ذلك لأن أساس هذه الدولة قام على العقيدة الإسلامية. ولقد وثق ذلك وأصل في النظام الأساسي للحكم الذي حسم مرجعية الدولة والمجتمع السعودي، وهي مرجعية كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».

من الناحية المنهجية الموضوعية، ليس هناك فرق بين المناسبتين، بل بينهما تكامل وتناغم.

فموسم «المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية»: تذكير وتنوير بما قدمه المسجد النبوي، وقدمته ربوع المدينة المنورة كافة من ثقافات ومعارف، ليس للمسلمين فحسب، بل للأسرة البشرية كلها.

فحين انبثق نور الإسلام: بنزول القرآن وابتعاث محمد نبيا رسولا، كان العالم كله ملفوفا في ظلمة عقلية وفكرية واجتماعية وسياسية.. هذه حقيقة تاريخية لا مراء فيه. وقد جهر بهذه الحقيقة عشرات من مؤرخي العرب والغرب ومفكريهم، منهم - مثلا - المؤرخ المصري جوزيف نسيم يوسف الذي قال في كتابه «تاريخ أوروبا في العصور الوسطى»: «أفاقت أوروبا من وحشة العصور المظلمة في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي (يقابل القرن الخامس والسادس الهجريين)، أفاقت أوروبا لتجد نفسها أمام حضارة إسلامية شامخة البناء».. ومنهم أيضا: ستانود كمب، الذي قال في كتابه «المسلمون في تاريخ الحضارة»: «إن القرن السابع الميلادي الذي شهد قيام الإسلام، شهد أيضا أوروبا وهي تدخل العصور المظلمة».

في تلك الحقبة التي تحجر فيها العقل البشري، وجفت ينابيع الثقافة والمعرفة، واختلت فيها المعايير والموازين في كل شيء: كانت المدينة المنورة - يومئذ - مصدر النور والعرفان، وينبوع الثقافة الحقة، والمعرفة الصحيحة الراشدة الراقية النافعة.

ولذلك يمكن تسمية هذه المدينة المقدسة (المدينة المنوِّرة) أيضا - بالبناء للفاعل، أي إنها مدينة نورت العالم كله، ومنها انطلقت (نهضة التنوير الكبرى) في كوكب الأرض.

ولئن تعذر الاستقصاء والاستقراء التام لأنواع المعارف والثقافات التي فاض فيضها المكنون في المدينة المنورة، فإننا نكتفي - اضطرارا - بضرب الأمثال والنماذج:

1 - (ثقافة التنوير بالتوحيد الخالص)، وهو إفراد الله بالوحدانية، ونفي الشركاء جميعا، وهذا التوحيد إذ هو حق الله المطلق على عباده، هو - في الوقت نفسه - (تحرير) للإنسان من كل عبودية أخرى، ولذلك قال الإمام الجنيد - رحمه الله: «لا يكون الإنسان عبد الله حتى يكون مما سواه حرا».

2 - (ثقافة التنوير بكرامة الإنسان).. «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».. وتزداد قيمة هذه الكرامة ألقا وسموا حين نعلم أنها نزلت في حقبة تاريخية كان فيها كبار الفلاسفة – كأفلاطون - يقسمون، بآثارهم الفكرية، الناس فيها – من حيث الأصل - إلى سادة وعبيد، وأن العبد - بصفته - لا كرامة له قط.

3 - (ثقافة التنوير بالمساواة العامة بين الناس) من حيث الأصل والنشأة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: (كلكم لآدم. وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).

4 - (ثقافة التنوير بوحدة الجنس البشري): «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ».

5 - (ثقافة التنوير بالتنوع العرقي واللغوي واللوني) في إطار وحدة الجنس: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ».

6 - (ثقافة التنوير بالحفز على تحريك العقل للتعامل مع الكون بعلم وتسخيره لصالح الإنسان: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».. «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».. وهذا ما لحظه جون برنال في كتابه «العلم في التاريخ»، إذ قال: «صعد الإسلام صعودا فجائيا. وكان الأثر المباشر لذلك هو التنشيط الثقافي الكبير للثقافة والعلوم. وقد أصبح الإسلام نقطة التجمع للمعارف الآسيوية والأوروبية، ومن ثم تدفقت في هذا المجرى المشترك سلسلة من المخترعات لم تكن معروفة ولا متاحة للتكنولوجيا اليونانية والرومانية».

7 - (ثقافة التنوير بالشورى وتقدير آراء الناس).. إن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي رسول يتلقى الهدى والتسديد من الله، ولا يحتاج - من ثم - إلى رأي بشر، ومع ذلك أمر بأن يشاور أصحابه في ما لم يتنزل به وحي وهو كثير: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».. وتعلو قيمة الأمر بالشورى في ذلك الزمان حين نعلم أن الاستبداد السياسي والديني كان سيد الموقف ومصدر القرار في إدارة الشؤون المشتركة للأمم.

8 - (ثقافة التنوير بمقاومة العنف). فنبي الإسلام أرسى قاعدة الرفق، المناهض للعنف، في كل شيء، فقال: (عليكم بالرفق في الأمر كله، فإن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»، وقد قال أحاديث كثيرة صحيحة تدين عنف الخوارج، وتحذر الأمة منهم إلى يوم الدين: تحت أي راية ظهروا، وفي أي عصر.

9 - (ثقافة التنوير بالجمال): فهما وتذوقا وممارسة.. نقرأ في القرآن: «وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ».. «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ».. «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ».. «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ».. ونقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال).. (من كان له شعر فليكرمه).. ولقد وصف الواصفون نبي الإسلام فقالوا: «إنه كان أجمل الناس وكان أحسن الناس خلقا».. ولقد اصطبغت الحضارة العربية الإسلامية - في عصورها الزاهرة - بهذه الصبغة الجمالية التي تبدت في صور وأشكال كثيرة.. يقول أوليج جرابار، أستاذ تاريخ الفنون الإسلامية في جامعة هارفارد: «منذ قديم الزمان، استطاع العرب أن يجسدوا قيمهم الروحية وحاجاتهم المادية في مرئيات تتصف بالرمزية والجمال»، بل يقرر هذا الأستاذ أن الجماليات العربية الإسلامية قد أثرت في النهضة الفنية الجمالية في أمم أخرى من هذا العالم، ولا سيما الغرب.. يقول: «أما أثر الثقافة العربية الإسلامية في المناهج الفنية للثقافات الأخرى، وبخاصة في الغرب، فكان من وجوه كثيرة يعكس الخصائص الداخلية الذاتية لتلك الثقافة».

10 - (ثقافة التنوير بقيمة التسامح).. لعل أدق وأصح تعريف للتسامح هو أنه (سعة العقل والصدر والروح للحق كله) دون تعصب ولا رفض ولا انتقاء. بهذا المفهوم، طبع الإسلام أمته على التسامح من خلال فريضة الإيمان بالأنبياء جميعا، وبالكتب التي تنزلت عليهم كافة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ».

11 - (ثقافة التنوير بالعدل مع الناس جميعا) ولو كانوا أعداء: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». وقد أمر النبي بأن يقول للناس كافة: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ».. نعم. هذه هي (نهضة التنوير الكبرى) التي انبثقت من المدينة المنورة التي نورت جزيرة العرب والعالم كله، تحقيقا لقوله جل ثناؤه:» كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».