الديكتاتور المستعار

TT

«الديكتاتور المستعار» هو مصطلح يراد به رصد ظاهرة لم تزل تتجلى في العالم العربي، وتحديدا في سوريا والعراق، أو في لبنان حسن نصر الله وغزة خالد مشعل، قبل أن يستبدل الأخير مرشدا بمرشد، بحيث إن هؤلاء الديكتاتوريين الجدد لا يحملون أي مشاعر تجاه بلدانهم وشعوبهم ولا يريدون لها أي تقدم وازدهار، لكن غاية مرادهم هي إرضاء راعيتهم وحاميتهم الإقليمية حيث الجمهورية الإسلامية في إيران.

لم تزل إيران تسعى بقضها وقضيضها في العالم العربي لخلق هذا النمط من الديكتاتوريين أو دعمه، إن على مستوى الدول كما في سوريا بشار الأسد، وإن على مستوى الحكومات كما في حكومة نوري المالكي في العراق أو حكومة حزب الله في لبنان أو حكومة حماس في غزة، وإن على مستوى حركات الشغب الشعبي كما صنعت وتصنع في البحرين واليمن وبمستوى أقل في بعض دول الخليج العربي.

بعيدا عن التاريخ الروماني الذي كان منشأ الديكتاتورية كمصطلح سياسي فإنه وللتفريق بين «الديكتاتور» و«الديكتاتور المستعار» فنحن بحاجة لبعض الأمثلة الصارخة والحديثة تلك التي يمكن استحضارها بسهولة، وهي توضح الفروق بين النموذجين، فمثلا كان النازي الألماني هتلر ديكتاتورا، ومثله الفاشي الإيطالي موسوليني، ومثلهما وأكثر الشيوعيان السوفياتي ستالين والصيني ماو تسي تونغ، فهؤلاء كانوا ديكتاتوريين دمويين، غير أن كل واحد منهم كانت لديه رؤية وتوجه وسياسات ظلوا يعتقدون أنها مفيدة لمن يطرحون أنفسهم قيادات لهم سواء كانوا عرقا أو دولة أو حزبا أو آيديولوجيا، وهو تماما عكس «الديكتاتور المستعار» الذي يملك – مثلهم - رؤية وتوجها وسياسات لكنه على العكس منهم يعتقد أنها مفيدة لدولة أخرى وأناس آخرين غير من يطرح نفسه قائدا لهم، وهو ما تصنعه النماذج أعلاه في خدمة أجندة المشروع الإقليمي لإيران.

«الديكتاتور المستعار» هو منفّذ مخلص لتوجيهات الدولة التي ينقاد لها أو على الأقل تلتقي مصالحه السلطوية معها ويتعلق مصيره بتطبيقها، فالمالكي وبعد ما يزيد على ثلاثة أشهر من الاحتجاجات التي لم تزل تتسع وتنتشر في ربوع العراق لم يغير شيئا من سياساته، بل هو يتجه للمزيد منها، فهو تولى رئاسة الوزراء للمرة الثانية على الرغم من أن خصمه «القائمة العراقية» كانت الأكثر حصدا للأصوات، لكنها الضغوط الإيرانية الكثيفة التي استخدمت سياسات العصا والجزرة بأعتى صورها مع الساسة والزعامات العراقية حتى ضمنت إعادته لسدة رئاسة الحكومة فبقي مخلصا لها يرتكب تحت هذا الدعم اللامحدود منها غرائب وعجائب سياسية مع معارضيه، فهو يرسل الجيش إلى المحتجين في صحراء العراق البعيدة عن مراكز صنع القرار أو تهديد الدولة، وهو يبعث بالطائرات الهليكوبتر لخطف وزير مستقيل في أعمال متواصلة وسياسات لا منطقية يريد جراءها كسب رضا الدولة الداعمة وإن رغما عن العراق والعراقيين بتياراتهم وأحزابهم وانتماءاتهم، وبشار الأسد يصنع في سوريا أكثر من المالكي بكثير وإنما الفارق يختلف نسبة وتناسبا مع حجم الاحتجاجات وضخامة الأحداث ونوعية التهديد الذي يواجهه كل منهما من موقعه.

وفي سياقٍ متصل فإنه ومع كل رسائل العقلانية وسياسات مراعاة الجوار التي تنتهجها دول الخليج تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران، فإن إيران مستمرة في سياسة استراتيجية واضحة وصريحة تتبنى كل مفرداتها استهداف دول الخليج، ولا أحسب أنه يعتري أي متابع أو مراقب أي شك أنها تكن من العداء الاستراتيجي لدول الخليج وللعرب - بشكل عام - ما لا يمكن إنكاره أو غض الطرف عنه.

إن سياساتها المعلنة وتصريحات مسؤوليها السياسيين والعسكريين وخططها التي تجريها على الأرض في أكثر من بلد عربي وخليجي، وآيديولوجيتها الثورية من قبل، وخلقها ورعايتها ودعمها لـ«ديكتاتور مستعار» في كل بلد عربي، تكون مرتبتها ومكانتها وقيمتها مرتبطة بحسب نجاحها في التغلغل هنا أو هناك، والمؤشرات غير هذا كثيرة، وهي تشير مجتمعة إلى أن إيران تسعى وبكل ما أوتيت من قوة لمناصبة دول الخليج العربي العداء ولتجعل من نفسها عدوا استراتيجيا لهذه الدول.

واحد من أهم عناصر الاستراتيجية الإيرانية يكمن في استخدام الطائفية كسلاح سياسي تدير منه صراعاتها وصناعاتها لنماذج «الديكتاتور المستعار»، والطائفية بقدر ما هي مرفوضة بمعناها الديني بقدر ما هي فاعلة في الصراعات السياسية وبخاصة في لحظات الأزمات الكبرى، وها نحن نرى نماذج «الديكتاتور المستعار» في العالم العربي تتبع وتنفذ بوعي كامل هذه الخطة، فالأسد في سوريا سعى من أول يوم لتصوير الأزمة في بلاده على أنها أزمة طائفية، ووظف بوعي المنتمين للطائفة العلوية وللأقليات بشكل عام لخدمة مشروعه ونظامه، وهو قد ارتكب كديكتاتور مستعار كل ما يناقض آيديولوجية حزبه «حزب البعث» لصالح البعد الطائفي.

في محاولة إضفاء الصبغة الطائفية على الاختلافات السياسية لا يختلف نوري المالكي عن الأسد إلا بقدر ما يختلف الحوثي في اليمن عن حسن نصر الله في لبنان، وأخبار الأسلحة التي يتم نقلها تباعا للاثنين من إيران مباشرة أو ممن هم صنائعها في المنطقة في ازدياد وتسارع.

ما لا يدركه «الديكتاتور المستعار» هو أن الاصطفاف الطائفي لن ينجيه أبدا، بل على العكس تماما، فبلاده ستصبح نهب الرياح بين تقسيم سياسي أو طائفية مقابلة ستكون أعتى وأبقى.

وما لا تدركه إيران هو أن مارد الطائفية حين يخرج من قمقمه فإنه يكون قادرا على إحراق الأخضر واليابس، وناره التي توقدها اليوم، وحين تمتح من كير التاريخ فستكون العاقبة أكبر من وخيمة، فحين يتم دفع الغالبية إلى اللجوء لخيار الطائفية لتصبح حكما أقوى من العقل وقاضيا أرسخ من الاعتدال، فإن كل ما أنفقته إيران في المنطقة هنا وهناك سيصبح هشيما تذروه الرياح، وكل ما دعمته من توجهات في الغرب على المستوى السياسي كما على المستوى الأكاديمي من توصيفها بأنها تمثل ديمقراطية الأقلية في مقابل ديكتاتورية الأكثرية سيصير حصادها منه مجرد رماد لا يصلح حتى لذره في العيون.

«الديكتاتور المستعار» ستحترق ثيابه بالطائفية قبل من يرعاه، وهو لا يملك مئزرا في بلاده دونها، وهو بتعزيزها ونشرها إنما يدعم معارضيه ويقرب نهايته.