البابا والرئيس

TT

البابا هو بابا الفاتيكان الجديد (بوب فرنسيس) الذي ملأت صوره الشاشات بعد اختياره بابا للكاثوليك حول العالم، أما الرئيس فهو رئيس الصين الجديد (شي جين بينغ) الذي تسلم مهام منصبه رئيسا لواحدة من أكبر دول العالم من حيث تعداد السكان ومن حيث القدرات الاقتصادية والعسكرية. دولة تفرض احترامها على الولايات المتحدة الأميركية مما دفع مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيجنيو بريجنسكي أن يكتب مقالا متمنيا فيه عدم لجوء الصين لسياسة الهيمنة والاكتفاء بأنها دولة عملاقة والرضا بالمنافسة فقط مع الولايات المتحدة. وتمنى بريجنسكي ألا تنزلق آسيا في منزلق الشيفونية الوطنية التي تدفع المنطقة إلى الحروب. بكل ما للصين من تأثير على النظام العالمي كله وبكل ما لها من ثقل اقتصادي وعسكري، تجاهل الإعلام رئيس الصين الجديد وهام في الدخان الأبيض الذي ظهر من أعلى الفاتيكان. ما أكتبه هنا يجب ألا يفهم على أنه حكم قيمي على الفاتيكان ولا على الكاثوليكية والتي لها أتباع كثر في كل أنحاء العالم، فللفاتيكان بالطبع مكانته وكذلك للفاتيكان بالطبع قوته الناعمة ذات التأثير الواسع على كل من تتعلق مشاعرهم بالبابا وبالفاتيكان كرمز للكاثوليكية.

كنا في بداية دراستنا في الدكتوراه للمؤسسات العابرة للقوميات والحدود، كنا ندرس الفاتيكان مع الشركات العملاقة كواحدة من ظواهر المؤسسات عابرة الحدود. ولكن في تغطية الإعلام للحدثين، حدث تعيين رئيس للصين وتعيين بابا للفاتيكان، انحاز الإعلام لخبر تعيين البابا أكثر من تعيين رئيس أكبر دولة في العالم. وقد يقول قائل إن عدد الكاثوليك في العالم ربما يصل إلى عدد سكان الصين أو أكثر، وهذا ليس صحيحا، كما أن اقتصاد الصين وقوة الصين النووية والعسكرية أكبر بكثير وأهم بكثير. ولكنه الإعلام الذي يفرض علينا كل يوم ما هو مهم وما هو أهم، أو ما يسمي بأجندة اليوم الإعلامية. ولكن الإعلام شيء والواقع شيء آخر. وفي هذا دروس كثيرة لفهم ما يحدث في منطقتنا أيضا بوعي أو بغير وعي.

وبمجرد الحديث عن علاقة البابا بموضوع القوة الصلبة التي تحكم العالم وما يملك من أدواتها المؤثرة التي تحدد مسار النظام العالمي مقابل قوة الفاتيكان الناعمة العابرة للحدود، يتداعى إلى الذهن ما قاله جوزيف ستالين عندما قيل له إن بابا الفاتيكان اتهمه باضطهاد الكاثوليك. رد جوزيف ستالين بغطرسة القوة الخشنة: وكم فيلق يعمل تحت إمرة البابا؟ بعدها حور الإعلام الأميركي إجابة ستالين ليقول: وكم دبابة يمتلك البابا؟ بالفعل كم دبابة وكم فيلق يمتلك البابا مقارنة بقدرات الجيش الصيني الذي هو أكبر جيش في العالم قوامه 2.5 مليون مقاتل ولو أضفنا إليه بعض القوى المنخرطة تحت مسميات أخرى ولكنها عسكرية يكون قوام الجيش 3.5 مليون جندي. والقوة النووية الصينية تنافس أميركا وروسيا من حيث الكم والنوع. والإنفاق العسكري الصيني من الميزانيات الكبرى في العالم.

ربما يجادل البعض اليوم بأن الاهتمام الإعلامي بالبابا هو نتيجة وليس سببا. بمعنى أن اهتمام العالم بالبابا الجديد على حساب رئيس الصين الجديد هو دليل على تصاعد القوة الناعمة على حساب القوة الصلبة، أي أن قدرة الفاتيكان الثقافية والحضارية وحركة البشر من الكاثوليك في العالم ودورهم في الإعلام يجعل قوة الفاتيكان الناعمة أهم من قوة الصين الصلبة والنووية معا. وهذا جدل يحدث غالبا في حالات الاستقرار العالمية وعالم الرفاهية، فرغم أهمية القوة الناعمة فهي تظل محدودة التأثير إن لم يكن وراءها قوة صلبة تدعمها وتحميها.

عندما تحرك فراشه جناحيها في الصين تحدث عاصفة في وسط أميركا، هكذا يقول المثل الأميركي، ومع ذلك تعلق الإعلام - بما فيه الأميركي - أكثر بالبابا الجديد بدلا من رئيس الصين الجديد. الفكرة ليست أيهما أفضل البابا الكاثوليكي أم الرئيس الشيوعي، فهذا ليس هو الموضوع. الموضوع هو أنه أحيانا يقرر الإعلام وبشكل مناف للواقع ولمعطيات القوة على الأرض. الزخم الإعلامي يصنع القصة المهمة ويصنع الأولويات في ما سماه العلماء صناعة الرغبة أو ما يسميه أساتذة الإعلام setting the agenda. أي أن يحدد لك الإعلام أوليات ما هو جدير بالمشاهدة وما هو غير جدير بالمشاهدة. لك أن تفكر في الأمر قليلا: الصين بكل تعدادها الذي فاق المليار نسمة بكثير وسلاحها النووي وقوتها العسكرية والاقتصادية، يحتل موضوع رئيسها مركزا ثانيا وربما ثالثا بعد بابا الفاتيكان الذي نقب الإعلام حتى في هواياته الرياضية وتشجيعه للفرق الكروية الأرجنتينية.

بالطبع سيرة البابا تحتاج إلى تنقيب ومتابعة لأن محبيه كثر أو ربما لأن شركات الإعلانات ترى في حدث البابا مزيدا من الإعلانات التجارية المصاحبة للأخبار مما يدر على الإعلام دخلا لا تدره تغطية حدث تنصيب الرئيس الصيني الجديد.

لا شك أن بابا الفاتيكان هذا مهم سياسيا، ويبرز هنا أمران: الأول هو أنه جزء من نوع جديد من الخطاب الكاثوليكي الذي يهتم بالفقراء فيما عرف في أميركا اللاتينية بـ(liberation theology) أو لاهوت التحرر، والأمر الثاني هو تنحي البابا السابق طواعية والذي يعطي مثالا على الزهد في المنصب. كل هذا يستحق التغطية وأكثر، ولكن ليس هناك مبرر واحد يفسر لنا تلك التغطية الطاغية لبابا الفاتيكان في الإعلام على حساب تنصيب رئيس واحدة من كبرى الدول المؤثرة عالميا. إنها خيارات الإعلام ونحن نتبعها أحيانا كالقطيع دونما أدنى تفكير أو وعي نقدي. فانتبهوا.