للربيع العربي وجهان.. وهذا وجهه الناعم!

TT

من المفارقات التي لا بد أن تستوقفنا، أن ما يوصف بالربيع العربي، قد أفاد الدول التي لم يصل إليها، بقدر ما أصاب الدول التي وصلها، بالإرباك، والتخبط، وسوء الحال! فقد بدأ ما يقال عنه، أنه ربيع عربي، في تونس، ثم مر على مصر، ومن بعدها جاءت ليبيا واليمن، وأخيرا سوريا، ليتبين لنا في النهاية، ومن خلال ما جرى ويجري أمام أعيننا، في هذه الدول الخمس على وجه الخصوص، أن مواطنيها في غالبيتهم الكاسحة، يتمنون من أعماق أنفسهم، لو عاد بهم الزمان إلى ما قبل الربيع، فقد كانت الأحوال وقتها أفضل، والأجواء أهدأ، والمعيشة عموما، أحسن! وهكذا، فالمقارنة لسوء الحظ، بين سيئ كنا نعيشه، وأسوأ لا نعرف كيف نطيقه؟!

وسوف يأتي يوم يقال فيه شيء أوضح، عن هذا الربيع، وعن أصله وفصله، وعما إذا كان ربيعا حقا، للذين فاجأهم في بلادهم، أم أن وراءه ما وراءه، مما لم يتكشف لنا بعد، وإن كانت أشياء مبهمة، قد بدأت تتسرب عن جذوره، مرة هنا، وأخرى هناك!

وفي كل الأحوال، فإن بلادا عدة، في العالم العربي، بخلاف تلك الدول الخمس، قد أدركت سريعا، أن عليها أن تستوعب دروس ذلك الربيع مبكرا، بصرف النظر عما إذا كان حقيقة، أو وهما، وقررت أن يكون أمرها بيدها، لا بيد غيرها!

فقبل أيام، كان عبد المالك سلال، رئيس حكومة الجزائر، قد طار إلى جنوب بلاده، ليزور ولاية بشار، التي تقع على مسافة ألف كيلومتر من العاصمة، وكانت المناسبة أن آلافا من الجزائريين الجنوبيين، في هذه الولاية، قد أعلنوا عن عزمهم الخروج في مليونية حاشدة، ضد سوء الأوضاع في ولايتهم.

زمان، وقبل أن يزور «الربيع» بلادنا، كان الأمن الجزائري وحده كفيلا بالتعامل مع حدث من هذا النوع، وكان المواطنون أنفسهم يفكرون ألف مرة، قبل أن يعلنوا أنهم سوف يخرجون إلى الشارع، لطرح مطالبهم على السلطة، فإذا بنا إزاء وضع مختلف تماما.. وضع يكفي فيه أن تتململ ولاية جنوبية بعيدة جدا عن العاصمة الجزائرية، ليتحرك رئيس حكومتهم على الفور، ثم لا تكون حركته مجرد زيارة نظرية، وإنما يعلن من جانبه، في أثنائها، عن خطوات تؤدي بطبيعتها، إلى أن تتاح فرص عمل أكثر، أمام الجنوبيين، ثم تكون الحياة عندهم أيسر بوجه عام.

ولا بد أن أي متابع لأمور السياسة في الجزائر، يلاحظ أن مسؤوليها بدءا من الرئيس بوتفليقة نفسه، ووصولا إلى الذين هم دونه، يرددون مرارا، ما يمكن أن نفهم منه، أنهم صاروا أحرص الناس على ألا يصل إليهم «ربيع» من نوع ما وصل إلى دول الربيع الخمس، وأنهم، في الوقت نفسه، يجب أن يقدموا على الأرض، ما من شأنه أن يدل على أن موجة واحدة ترسل وتستقبل بين المسؤولين والناس، لا أن يكون الإرسال على موجة، بينما الاستقبال على موجة أخرى مغايرة، فتتعطل بينهما لغة التفاهم.

ولم تكن الجزائر فريدة في هذا الاتجاه، وإنما الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، كان من بين الذين أدركوا سريعا أيضا، أن عملية إصلاح كبيرة، يجب أن تطال أمورا كثيرة في بلاده، وهو ما حدث فعلا، وكانت العبارة الأصدق التي لخص بها الملك رؤيته، لحدود الإصلاح في بلده، هي تلك التي قالها قبل نحو شهرين، وكانت كالآتي: إن الملكية التي ورثتها عن أبي، لن تكون هي نفسها التي سوف أورثها لابني!

وفي السعودية، كان الملك عبد الله بن عبد العزيز، أسبق الناس إلى الأخذ بأفكاره، يوم كان وليا للعهد، بل وقبل ذلك بكثير، وحين حضر الرجل جلسة افتتاح مجلس الشورى، الذي جاء فيه بثلاثين امرأة بين أعضائه، بقرار منه، فإنه أشار بشكل صريح، إلى أن الإصلاح الذي بدأه، مستمر، ولكنه، أي الإصلاح، مسألة تدريجية، وتلك نقطة مهمة للغاية، لأنه ثبت أن الإصلاح الذي يبغي تغيير أو تعديل كل شيء، مرة واحدة، لا يصل في الغالب إلى شيء!

وفي البحرين، كان الملك حمد بن عيسي، أول الذين دعوا الدكتور شريف بسيوني، أستاذ القانون الدولي، من الولايات المتحدة، حيث يعمل ويقيم، ليضع تقريرا عما كان قد جرى في المنامة من أحداث، في مطلع «الربيع» ثم كان الملك ذاته، هو أول الذين رحبوا بما انتهى إليه تقرير شريف بسيوني، وأول الذين لم يجدوا حرجا في أن ينفذوا ما جاء في التقرير، لصالح حقوق الإنسان البحريني في عمومه.

وهكذا، من الجزائر، إلى الأردن، إلى السعودية، ثم البحرين، يتضح لنا، أن دوائر الحكم في هذه البلاد - على سبيل المثال - قد أيقنت، أن الحال فيها، قبل الربيع، لا يمكن أن يدوم على ما هو عليه، بعده، وأنه لا بد من إصلاح، ولا بد من تطوير، ولا بد من تفكير جديد مفعم بالحيوية، في مواجهة تلك العدوى الربيعية، التي بدأت في تونس العاصمة، ثم ما لبثت أن راحت تدور على عواصم العرب، واحدة وراء أخرى!

وبطبيعة الحال، فإن ما طال مؤسسات الحكم في الكويت، وفي المغرب، من محاولات إصلاحية جادة، ليس بعيدا عما نقوله، وهو ما كنت قد توقفت عنده، من قبل، في هذا المكان، بتفصيل أكثر، فلا أعود إليه.

وإذا كان هناك شيء يضمن دوام هذه المسيرة الإصلاحية، في هذه العواصم المشار إليها، فهذا الشيء هو أن تظل عبارة الملك عبد الله بن عبد العزيز المهمة، التي وصف فيها إصلاحه، أمام الأعين طول الوقت.. أنها العبارة التي ترى الإصلاح ذا طبيعة تدريجية، بمعني أنه إذا كان قد بدأ، فلا يجب أبدا أن يتوقف.

يقول علماء الجيولوجيا والفلك، عن القمر، إن له وجهين، أحدهما مضيء نراه، وآخر مظلم لا نراه، وبالقياس، فإن «الربيع العربي» إذا كان له وجهان، فهذا وجهه الإصلاحي الناعم، بخلاف الوجه الثاني الخشن، الذي امتلأ بالعنف، والدم، ولا يزال، دون أن تكون له حصيلة إيجابية، في حياة أي مواطن «ربيعي» إذا جاز التعبير!