رسائل لا تُقرأ في تونس

TT

عندما أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، حصل يومها نوع من الاستياء المجتمعي أخذ يكبر ويكبر إلى أن عبّر عن نفسه غضبا واحتجاجا ورفضا قطعيا يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011. فحادثة انتحار محمد البوعزيزي كانت شرارة اندلاع الثورة التونسية، والسبب المباشر في حدوث الالتحام الجماعي وتجاوز سلوك الصمت والسلبية.

لقد كان من بين أهداف تحرك الشعب التونسي يوم 14 يناير الدفاع عن حياة التونسيين، وطي صفحة الانتحار مع الشهيد محمد البوعزيزي، وأيضا مرور تونس إلى مرحلة المواطنة الحقيقية التي تجمع بين الكرامة المادية والمعنوية.

وفي هذا السياق، نشير إلى أن روح الأمل قد خيّمت على المجتمع التونسي، وصدّق الفقراء والمحتاجون والعاطلون عن العمل أن أياما مشرقة لا جوع فيها ولا يد فارغة في انتظارهم.

نعم، الثورة التونسية حملت مضامين نفسية إيجابية، جددت القدرة على التحمل والصبر والانتظار.

ولكن الواقع الاقتصادي ما بعد الثورة، الذي يزداد تدهورا، قد أثر سلبا على هذه المضامين النفسية الإيجابية، فتسرب اليأس من جديد، وعادت ظاهرة الانتحار من جديد، وآخرها موت الشاب عادل الخزري صاحب الـ27 عاما، حرقا. وما بين محمد البوعزيزي وعادل الخزري بائع السجائر، حدث ما يقرب من 221 حالة انتحار، وقد شكلت فئة الشباب نصيب الأسد من مجموع حالات الانتحار المشار إليها.

ولما أصبح الانتحار حرقا أو غيره من أشكال الموت الشنيع، حادثة اعتيادية تحصل بمعدل 19 حالة شهريا، فإن هذا الحدث فقد طابع الصدمة، وتحول إلى خبر عادي لا يستحق أحيانا حتى استهلال نشرات الأخبار به.

وهنا نلاحظ كيف أن النخب السياسية الحاكمة في تونس، منذ سقوط نظام بن علي إلى اليوم، عوض أن تنجح في تحويل الوجهة من الانتحار إلى الحياة الفعلية، فإنها قد نجحت، وبامتياز، في جعل الانتحار حرقا بسبب الفقر والحاجة والبطالة حدثا عاديا.

إن فئة محمد البوعزيزي وعادل الخزري وكثيرين من أمثالهما المهمشين، لم تحقق لها الثورة أي انفراج. فالفقراء ازدادوا فقرا، والمحتاجون ازدادوا حاجة، باعتبار أنهم أول ضحايا ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. في حين أن الموظفين باختلاف درجاتهم ورتبهم قد تحسنت مرتباتهم، وتحصل عدد كبير على الترقيات، أي أن الذين لديهم مورد رزق ووظيفة تحسنت نسبيا أمورهم المادية، والذين لا يمتلكون وظيفة ولا حتى عملا مؤقتا ظلوا على حالهم، وذلك لأن الدولة لم تدرس جيدا مجتمع العاطلين عن العمل الذي اختزلته خطأ في أصحاب الشهادات.

بل إنه حتى رسائل هؤلاء المنتحرين لا تُقرأ تماما، كما لم تُقرأ رسائل حادثة الغرق التي أودت بحياة نحو 79 شابا تونسيا قرب السواحل الإيطالية، في سبتمبر (أيلول) 2012، وهم «حارقون» بحثا عن العمل.

مآسٍ تتكرر باستمرار، وكلّها ذات رسالة واحدة، وهي رسالة الفقر والحاجة وانسداد الأفق واليأس بسبب تراكم الإكراهات الاقتصادية.

لقد كان من الممكن أن يكون عدد المنتحرين أقل. ولكن كيف يكون ذلك، والنخب السياسية الحاكمة حاليا تتصرف وكأنها غير مسؤولة عن خلق حالات اليأس الاقتصادي، التي يبدو الانتحار عنوانا من عناوينها البارزة.

إن التراخي الواضح في المجال الاقتصادي وتعطيل رجال الأعمال بحق وبغير حق والانخراط في الحسابات السياسية الضيقة إن لم تُتدارك بكفاءة وسرعة، فإن الفئة المهمشة الفقيرة هي عبارة عن قنبلة موقوتة ستنفجر في لحظة ما قريبة.