الهجرة سلاح جهادي

TT

من أساليب الجهاد المدني التي قلما تخطر على الذهن، بسبب شيوعها، أسلوب الهجرة. وهي وسيلة شاع انتشارها عبر التاريخ. من أول أمثلتها كان ما قام به العبيد والشغيلة في روما أثناء عز الإمبراطورية الرومانية. ساءت أحوالهم إلى درجة موجعة، ولم يلتفت الأشراف لشكاواهم، فتداولوا الأمر فيما بينهم، وهجروا المدينة، ولجأوا إلى الجبال المحيطة بروما يقتاتون من غثائها وعشبها. كان الأشراف طبعا يعتمدون عليهم في ولائمهم الصاخبة. وجدوا فجأة أن لا أحد هناك يتولى خدمتهم. اضطروا إلى التفاوض معهم ومراضاتهم بالاستجابة لطلباتهم.

ويشيع أسلوب الهجرة بصورة خاصة بين الأديان، والإسلام أحسن مثال على ما أقول، حتى أصبحت «الهجرة» مبدأ للتقويم الإسلامي، وكانت القاعدة التي انطلقت منها الرسالة بذلك الحدث التاريخي الجبار يوم غادر المؤمنون مدينة مكة، وهاجروا إلى المدينة. وكانت هناك قبلها طبعا الهجرة الأولى إلى الحبشة. التاريخ الإسلامي حاشد بقصص الفئات التي اعترضت على الحكم القائم فهاجرت إلى ديار أخرى. كذا كان الأمر بين الطوائف المسيحية؛ ظهرت في إنجلترا في القرن السابع عشر مجموعة «التساويين» (levelers) الذين آمنوا بتطبيق المساواة بين كل المواطنين. اضطهدهم كرومويل، وأوغل في تقتيلهم، فرحلوا إلى أميركا. وبما حملوه معهم من الإيمان بالمساواة، ساهموا في إشاعة فكرة المساواة في الديمقراطية الأميركية. وعلى الرغم من كل ما نقوله عن أميركا، فإنها في الواقع أصبحت بوتقة تاريخية لشتى الطوائف المؤمنة بالسلام والتآخي والمساواة. منها طائفة المنونايت التي آمنت بالرجوع إلى بساطة عيش السيد المسيح عليه السلام، ومن ذلك رفض حمل السلاح والمشاركة في أي قتال. اضطهدهم الألمان فهاجروا إلى روسيا. تعرضوا للاضطهاد نفسه هناك، فرحلوا إلى أميركا. وهناك استطاعوا تحقيق حق المواطن في رفض المشاركة في الحرب إذا تعارضت مع ضميره وإيمانه.

الحقيقة أن كثيرا من التحولات التاريخية المهمة التي ساهمت في مسيرة الحضارة العالمية تعود لهجرة طوائف أو مجموعات حملت أفكارا تقدمية متنورة اضطرتها للرحيل وإعادة غرس بذورها في تربة أخرى. ولا ننسى أن نهضتنا العربية أيضا تعود لهجرة كثير من مفكرينا إلى أوروبا، ابتداء من القرن التاسع عشر، بما مكّنهم من إعادة الكرّة، ومقارعة الحكم الأجنبي. ولا يخفى عنا أن ما يجري في العراق اليوم يعود، لحد كبير، إلى هجرة المثقفين للخارج، وسعيهم لإسقاط صدام حسين. وكان من أفكاري التي استوحيتها من فلسفة الجهاد المدني أن نفعل ما فعله العوام في روما؛ بأن يخرج سائر المهنيين من العراق، ويتركوا صدام حسين ليدبر أمره. وسرعان ما يكتشف حاجته لهذه الشريحة المتعلمة ويذعن لمتطلباتها. أعتقد أن هذا الزخم الجاري حاليا في هجرة المثقفين العرب للخارج هو نوع متستر من الهجرة من التخلف وممارساته. المؤسف فيه أنه احتجاج أخرس لا ينطق بحقيقته. يحتاج لمن ينطق بلسانه.

تطورت فكرة الهجرة في العصر الحديث، فأخذت شكل الإضراب عن العمل أو الدرس، بدلا من الهجرة لخارج الوطن. يقوم بالهجرة من ماكينته وورشة عمله داخل الوطن. يسحب عمله، ويضطر صاحب العمل إلى مفاوضته وترضيته.