أبعد من الخرائط الميدانية للصراع في سوريا

TT

كانت بداية السنة الثالثة للثورة السورية فرصة للحديث عن الواقع الميداني للصراع بين النظام والمعارضة المسلحة، وفي إطار ذلك طرحت خرائط ميدانية للصراع، وبدا أن الهدف الأساسي للحديث عن الواقع الميداني وفق خرائط الصراع إعطاء صور تفصيلية عن توازنات القوة على الأرض عبر مقارنة مكثفة بين ما يسيطر عليه النظام بجيشه وقوات أمنه، وما تسيطر عليه قوى المعارضة المسلحة من مساحات في المحافظات والمدن والقرى والأحياء، وبالتالي حساب مقدار الربح والخسارة في صراع الطرفين، وتقدير مستقبل الصراع بينهما.

لقد أشارت الخرائط الميدانية للصراع، التي جرى طرحها أو رسم ملامحها، إلى تقاسم السيطرة على الأرض، حيث إن القسم الأكبر من مساحة البلاد، والممتد في شرق وشمال ووسط البلاد شاملا معظم محافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحلب وإدلب، وأجزاء من محافظات حمص وريف دمشق ودرعا، يقع تحت سيطرة قوى المعارضة المسلحة، والقسم الثاني هو الأقل مساحة، ويمتد بصورة أساسية عبر الشريط الساحلي من طرطوس إلى اللاذقية وجبالهما، وتلحق به مناطق تمثل جيوبا في مدن وقرى في خط الوسط السوري مثل حماه، إضافة إلى مدن الجنوب الكبرى دمشق والسويداء ودرعا، التي تسيطر عليها قوات الأمن والجيش الموالية، والقسم الثالث في خرائط الصراع، وهو الأقل مساحة، يقع خارج سيطرة الطرفين السابقين من المعارضة والسلطة، ويمتد في المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال شرقي البلاد وجزئيا في مناطق الشمال السوري، وهو قسم أقرب في توجهه إلى المعارضة منه إلى السلطة. والخلاصة الرئيسية التي تشير إليها أو تؤكدها خرائط الصراع، وما صاحبها من تحليلات، تفيد بأن ثمة سيطرة متوازنة أو شبه متوازنة بين السلطة والمعارضة على الأرض، وهذا يجعل الصراع ممتدا في المستقبل، بل وقد يجعله أيضا صعبا على الحل في الأفق القريب.

ورغم أهمية تلك الخرائط باعتبارها ترسم لوحة الصراع السوري، وضرورة أخذ ما تطرحه من خلاصات بعين الاعتبار في واقع الأزمة واحتمالاتها، فلا بد من إشارة إشكالية تتصل بتلك الخلاصات باعتبارها مبنية على معطيات جامدة تبرزها الخرائط، أكثر مما تعتمد على حقائق أساسية في مقدمتها أن هذه الخرائط ليست ثابتة ونهائية، بل هي خرائط متحركة، يمكن أن تتغير بين أسبوع وآخر، بل بين يوم وآخر، وهو ما تؤكده وقائع الصراع العسكري على الأرض. فقبل أسابيع فقط كانت الرقة ومناطق من ريف حلب ودمشق ودرعا تحت سيطرة قوات النظام، لكنها انتقلت جميعها لتصير تحت سيطرة قوات المعارضة، ويمكن القول إن تطورات في هذا الاتجاه سوف تتزايد بعد التطورات الجارية في اتصالها بقوى المعارضة المسلحة، والتي تؤكد المعلومات أن تسليحا وتدريبا نوعيا أخذ يدخل في نسيجها، وأن زخما سياسيا يعزز موقفها وإرادتها في ضوء قيام الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بتشكيل حكومة، لاقت كثيرا من الارتياح الإقليمي والدولي، وكلها سوف تساعد في حدوث متغيرات على الخريطة الراهنة للصراع، تجعل من الممكن تمدد المناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة، وتراجع مساحة المناطق التي يسيطر عليها النظام.

والملاحظة الثانية في موضوع الخرائط أنها لا تعكس بصورة حقيقية روح وموقف سكان المناطق التي يسيطر عليها النظام، وبالتالي فإنها لا تعكس جدية وجدوى تلك السيطرة وقيمتها الفعلية. فمن المؤكد أن ثمة فرقا كبيرا بين سيطرة قوات النظام على محافظة درعا وسيطرتها على طرطوس، حيث الأولى بؤرة الثورة على النظام، فيما الثانية لها مظهر المدينة الموالية، مما يجعل سيطرة النظام في درعا تماثل سيطرة الاحتلال ليس إلا، والحالة في دمشق تقارب صورة سيطرته على درعا، وهي سيطرة أمنية محضة، ومثلها سيطرته على مدينة حماه في الوسط، وفي أغلب المناطق التي ما زال النظام يسيطر عليها. هناك بنى اجتماعية وسياسية، تشكل حاضنة للمعارضة المدنية أو للمعارضة المسلحة، أو هي رافضة لسياسات النظام وسلوكياته في القتل والتدمير اللذين لا يحيد عنهما.

أما الملاحظة الثالثة، التي لا تراعيها خرائط الصراع في سوريا، فإنها تتعلق بالمسار الطبيعي للصراع والذي تكرس خلال العامين الماضيين، وهو تقدم الحراك الشعبي بأشكاله المدنية والمسلحة مقابل تراجع النظام، مما جعل مصير النظام محسوما في كل الاحتمالات بعد كل ما فعله من أعمال قتل ودمار، فقد من خلالها كل أهلية سياسية وقانونية وأخلاقية للاستمرار في السلطة، خاصة أن ذلك تم تحت سمع وبصر العالم، والمعارضة هي القوة الوحيدة المرشحة لوراثة النظام، وهي تحظى بتأييد ودعم قوى إقليمية ودولية واسعة، عبرت عن نفسها وموقفها مرات ولا تزال في المستويين السياسي والعسكري.

وسط تلك الملاحظات، يمكن القول إن خرائط الصراع في سوريا، وما ظهر على جمودها من تحليلات، وما تم الوصول إليه من نتائج، يمكن أن يكون بعيدا عن الحقائق الموضوعية والتقديرات الصائبة، لأن تلك الخرائط ليس ثابتة، ويمكن أن تتبدل بين وقت وآخر، والأهم أنها لا تتضمن ولا تلاحظ روح السوريين وموقفهم من سيطرة النظام على مناطقهم، ولا طبيعة الأزمة، التي تؤكد أن النظام إلى سقوط، وإن احتاج بعض الوقت، وأن معارضيه يسيرون إلى نظام جديد يولد على أنقاض النظام الحالي.