مزيد من الدم السوري

TT

منذ مجيء النظام السوري إلى الحكم عبر انقلاب عسكري مشبوه وغامض، وتسلم حافظ الأسد ومن بعده ابنه السلطة، تقع الجريمة السياسية المهولة الواحدة تلو الأخرى بلا دليل أو إدانة أو سقوط للجناة المرتكبين للحادث.

الحادث المريب الواحد تلو الآخر يمضي دون إجابة وافية عن ظروف القتل ولا أسبابه، وطبعا دون الإيقاع بالجناة ولا القبض عليهم، والاكتفاء بقصة مقتضبة من مصدر سوري رسمي لا يمكن مساءلته ولا الاستفسار منه عن المزيد من التفاصيل.

وها هو فصل جديد من الاغتيالات الغامضة يحدث على أرض سوريا. تفجير إرهابي كبير نفذه انتحاري في أحد مساجد دمشق أودى بحياة أحد أهم علماء العالم الإسلامي؛ محمد سعيد رمضان البوطي، وقضى معه أكثر من عشرين من رواد المسجد. وتتفاوت الروايات المتواترة عما إذا كان منفذ العملية انتحاريا أم أن هناك قذائف هاون تم استخدامها لتنفيذ العملية.

ولمراجعة تبعات هذه العملية لا بد من التفكير فيها من وجهة نظر نظام استخباراتي دموي يحكم بأسلوب «فرق تسد»، وإثارة الفتنة والقلاقل والشك والريبة والخوف بين أبناء الطوائف داخل الشعب، بل داخل الأسرة الواحدة.. هذا هو أسلوبه.

قبل هذا الحادث بأيام قليلة جدا أعلنت المعارضة السورية عن اختيارها لغسان هيتو رئيسا للحكومة الانتقالية في خطوة رمزية ولكنها جادة جدا تعلن فيه للعالم أنها الآن بصدد دور أكثر أهمية، وعلى الأرض، لإدارة شؤون مناطق سوريا المحررة على أيدي قوات الجيش الحر المعارض. ومن المعروف أن غسان هيتو هو من أصول كردية، وكذلك الأمر بالنسبة للشيخ البوطي الذي ينتمي إلى الطائفة الكردية ومن أصول كردية معروفة، وتم تنفيذ العملية الإرهابية في عيد النيروز، وهو أحد أهم أعياد الأكراد..

كل ذلك لا يمكن أن يكون مصادفة، وأن تنفيذ العملية في مسجد ملاصق للسفارة الروسية ومركز جهاز أمني استخباراتي رئيسي في دمشق تحاصره أرتال من الحواجز والجنود المدججة بالسلاح، فكيف لإرهابي محزم بالمتفجرات الناسفة أن يمر وسط كل هذا الحصار الأمني؟

والمسجد هذا بالذات شهد من قبل وقائع أمنية أخرى من قبل بقيت مقيدة ضد مجهول، علما بأن الشيخ الراحل البوطي يسكن في منطقة شعبية جدا ومن الممكن الوصول إليه واغتياله لو كان ذلك من رغبات المعارضة. ولكن النظام استنفد ورقة البوطي ولم يعد لبقائه واستمراره قيمة لرجل تجاوز الـ90 عاما من العمر، وقال كل ما يمكن أن يقال في شأن تأييد النظام ومعاداة الثورة.

ولكن النظام أدرك أن في الخلاص منه بشكل مفجع سيثير ويحرك مخاوف الأقليات مجددا، ويحرك عواطف الناس بحق اغتيال علامة كبير في بيت الله، ولكن الناس لم تعد بالغباء ولا الخوف القديم المتأثر بقصص وأقاويل وتصاريح النظام وزبانيته التي تحولت من مادة غير قابلة للتصديق إلى مادة للسخرية والضحك والنكات.

أرتال من الضحايا الذين سقطوا تباعا عبر السنين في سوريا أو في لبنان تحت النفوذ السوري المهيمن كلها بقيت دون كشف أو معرفة للفاعل. وحادث اغتيال الشيخ البوطي يأتي في ضمن ذات السياق الدموي البشع، كل فصل حزين كهذا يؤكد بلا جدال أن نظام الأسد ليس فقط معيبا على السوريين استمراره، ولكنه وصمة عار على العرب والمسلمين، ومسؤولية الخلاص منه باتت مهمة إنسانية؛ لأن العالم سيكون مكانا أفضل بالخلاص منه ومن نظامه.

البوطي عالم جليل، وهو الآن في دار الحق بين يدي رحمة رحيم ولا تجوز عليه إلا الرحمة؛ لأنه لا شماتة في الموت. ويبقى الدعاء قائما أن يسلم الله سوريا وأهلها.