وكله في خدمة السياسة

TT

لم يكتب عن امرأة بقدر ما كتب عن جاندارك، الصبية الفلاحة التي دخلت مسرح التاريخ عام 1429 عندما ذهبت إلى الدوفان، وريث العرش الفرنسي في أحرج مرحلة من حرب المائة سنة بين إنجلترا وفرنسا. ادعت أنها سمعت أصوات القديسة كاثرين التي أمرتها بأن تقود الفرنسيين في حرب لتحرير البلاد من حكم الإنجليز. كان الدوفان في أحرج وضع عسكري ومستعدا لأي فكرة تعينه. كان الأمراء مشغولين بالمنازعات في ما بينهم ومنهم من راح يشكك في أهليته للعرش، ويقول إنه ليس ابن أبيه.

وكان أحوج ما يكون إلى قشة يمسك بها، ووجدها في هذه الصبية الفلاحة التي ادعت برسالة إلهية, وقرر رجال أنها صالحة وصادقة ومفوضة من الرب بمهمة إنقاذ فرنسا. وبهذا الزخم الروحي أعادت روح البسالة والإيمان للجيش، فقادته في سلسلة بارعة من الانتصارات، كللتها بتتويج الدوفان ملكا على فرنسا.

بالطبع لم يطِب ذلك للإنجليز فتآمروا مع دوق برغندي على أسرها وبيعها لهم. ما إن أمسكوا بها حتى أحالوها للجنة أخرى من رجال الكنيسة. استجوبوها وفق نفس المتطلبات الشرعية وأصدروا فتواهم بأنها ساحرة يركبها الشيطان وتنفذ ما يطلبه منها. ثم أمروا بتطهير روحها بحرقها وسط المدينة حرقا لا يترك أثرا منها. وبهذه الفتوى يصبح تتويج الدوفان عملا غير شرعي وبدعة من الشيطان. وعندئذ يخلو الجو لهنري الخامس، ملك إنجلترا، ليصبح ملكا على فرنسا أيضا حسب الاتفاقية بينه وبين ملك فرنسا السابق.

ويمكرون والله خير الماكرين، فما سار هنري الخامس على رأس جيشه نحو باريس ليتم تتويجه في كاتدرائية نوتردام، حتى بعث الله عز وجل بجرثومة الديزانتريا لتتوغل في أحشائه حتى مزقتها وقضت عليه. أصغر مخلوقات الله تحطم أحلام أكبر ملوك الأرض. تسلم عرش إنجلترا بعده ابنه هنري السادس، وكان رجلا مسالما لا أطماع له بالتوسع، فانتهز الدوفان الفرصة ليعزز مكانته ملكا على فرنسا. وبالطبع اعتمدت شرعيته على ما قامت به جاندارك وادعائها بأن السماء قد عهدت إليها بتتويجه وطرد الإنجليز من فرنسا. ففاتح البابا واستحصل منه على فتوى جديدة تدعم دعواها وتنقض فتوى الإنجليز. فأصدر الفاتيكان قرارا بأن جاندارك لم تكن ساحرة قط وإنما كانت فتاة طاهرة وماتت شهيدة للدين. وسارع ملوك فرنسا إلى ملء كل المدن الفرنسية بتماثيل جاندارك البطولية، وفي مقدمة ذلك التمثال الذهبي المهيب في ساحة الأهرامات في باريس، وهي تمتطي صهوة جوادها بكامل دروعها، حاملة بيدها اليمنى الراية الفرنسية، تشير بها في اتجاه العدو التاريخي لفرنسا عندئذ، بلد الأنغلوسكسون، إنجلترا. وفي غمرة النزاع الإمبريالي بين فرنسا الكاثوليكية وألمانيا البروتستانتية، قرر الفاتيكان تقديس جاندارك «سان جاندارك».

ما نحن بوحيدين في استغلال الدين وتوجيهه لمآربنا الدنيوية، لا الآن ولا بالأمس القريب ولا البعيد.