منبع النيل الأبيض

TT

أبحرت مؤخرا مع كوشو نيوانا، الزعيمة الروحية البوذية لليابان، وأحد أعضاء مجلس إدارة «كيه آي سي آي آي دي»، وفريقها عبر بحيرة فيكتوريا في قارب متطلعين إلى منبع النيل الأبيض في نينجا بأوغندا. وكان انتباهي مركزا على الينابيع التي تزدهر داخل البحيرة. وكنا قادرين على التمييز بين موجات البحيرة وموجات الينابيع الأرجوانية. وقلت لنفسي إن النيل مرآة للحياة والتاريخ.

وتذكرت الرواية المميزة لصديقي العظيم الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي كان فيها النيل هو العمود الفقاري لبنية الرواية. النيل مثل الدم الذي يجري في عروق جميع شخصيات الرواية، خاصة مصطفى سعيد والراوي. ويعد نهر النيل أطول أنهار العالم، حيث يبلغ طوله 6.650 كم، ويمر بإحدى عشرة دولة تتقاسم مياهه. وكما يقول محمد إسماعيل:

«يا نيل يا قلب الوجود

حياك ابن الخلود»..

وللنيل فرعان أساسيان هما النيل الأبيض والنيل الأزرق. النيل الأبيض هو الأطول ومنبعه البحيرات العظمى التي توجد في وسط أفريقيا، ويمتد نحو الشمال عبر بحيرة فيكتوريا بأوغندا. أما النيل الأزرق فهو منبع الجزء الأكبر من مياه النيل والتربة الخصبة. إنه يبدأ عند بحيرة تانا في إثيوبيا ويمتد حتى السودان من البحيرة. ويلتقي الفرعان بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم.

أثار المشهد في داخلي سلسلة من الذكريات حين كنت في سينغام، المكان المميز الذي يلتقي فيه نهر يامونا بنهر جام التقاء مقدسا يتكرر كل ثانية أو أقل مثل نبضة قلب إلا أنها لا تتوقف.

يمكننا التمييز بين اللونين الأزرق والأبيض لمسافة قصيرة، لكن بعد بضعة كيلومترات، يمتزج الاثنان بعضهما بالبعض، لترى وحدة النيل في الخرطوم مثلما ترى وحدة الغانغيز واليامونا في الله آباد في الهند.

لقد كنت أفكر في رافدين للإسلام: الشيعة والسنة. منبع النيل واحد، ويمثل لوحة طبيعية من أبدع ما يمكن في العالم تنبض بالجمال والحياة.. «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة - 138).

وقلت لنفسي إنه علينا النظر إلى كل الظواهر والمفاهيم كمنبع النيل وكحلم تاريخي روحاني يحتاج إلى الاستكشاف. ما هو مصدر قوة واستقرار وشرعية البشر كأفراد أو كمجتمعات أو كحكومات أو كبلاد؟ خطر هذا السؤال الذي يمثل تحديا كبيرا بذهني بينما كانت المرآة السحرية لمنبع النيل تلمع أمام ناظري. وبدا لي أن كل موجة زرقاء وفضية جزء من مسيرة حياتي. هل هناك أي طريق مختصر لحل الأزمة الدينية في العالم الإسلامي؟ أعتقد أننا إذا كنا نريد العثور على حل من طريق مختصر فينبغي أن نعمل وحدنا، لكن إذا كنا نريد العمل على المدى البعيد والسعي نحو التوصل إلى حل مؤكد، فينبغي أن نعمل معا. و«معا» كلمة مهمة جدا هنا، فمن خلال العمل معا أعني أن الأمر ينبغي أن يكون مثل النيل الأبيض والنيل الأزرق في الخرطوم؛ ومثلما يحضن الغانغيز واليامونا بعضهما طوال حياتهما في الله آباد.

في الديانات العظيمة السماوية توجد مذاهب وروافد شهيرة؛ فعلى سبيل المثال في الديانة المسيحية لدينا ثلاثة مذاهب أساسية هي الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية.

حضر البطريرك بارثولوميو الأول، الزعيم الروحي للمسيحيين الأرثوذكس، حفل تنصيب بابا الفاتيكان، البابا فرانسيس الأول، للمرة الأولى منذ عام 1054م. بمعنى آخر، التقى رمزا المذهبين في حفل ديني رسمي بعد ألف عام من العزلة كما يقول غارسيا ماركيز.

أعتقد أن الأمر بات متأخرا بعض الشيء، لكنه لا يزال من الضروري قطعا أن يلتقي رافدا الإسلام، الأغلبية السنية والأقلية الشيعية، ويركزا على الإسلام لا على التاريخ والفقه. أعتقد أن التاريخ والفقه يصنعان مسافة بين المذهبين، وعندما توجد تلك المسافة تصبح أرضا خصبة لمشاعر الكراهية والعداء، فمن كان يتصور أن يقتل المسلمون بعضهم البعض في المساجد أو يقتلون الأطفال؟ إن هذه المسافة لهي الثمرة المرة لتلك المسافة. ويقول الله في كتابه العزيز في السورة الثالثة في كتابه (آل عمران) الآية رقم 64: «قل يا أَهل الْكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أَلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله».. أي أننا كمسلمين ندعو أتباع الديانات الأخرى لاعتناق الإسلام بكلمة سواء مثل الإيمان بالله، لكننا مع الآسف نصنع مسافة بيننا.

لقد كنت أفكر في مذهبي الإسلام الشيعة والسنة.. متى سيلتقي المذهبان؟

جاء في الإنجيل أن المسيح صلب بسبب مؤامرة اليهود عليه، لكننا نشهد الآن أكثر من أي وقت مضى التلاقي بين المسيحية واليهودية. بل نحن إزاء ظاهرة جديدة هي المسيحية - الصهيونية. ويقول البابا بنديكتوس السادس عشر في الجزء الثاني من عمله «يسوع الناصري» إن اليهود غير مسؤولين عن موت المسيح. بمعنى آخر يعتقد البابا أنه من الخطأ وصف اليهود بـ«قتلة المسيح» كما يصفهم أعداء السامية كثيرا ومن دون وجه حق. ولا يوجد أدنى شك في أن مبادرة بنديكتوس الخاصة بدعم العلاقة بين المسيحية واليهودية كانت مهمة رغم أنه تسبب في بعض المشاكل بين المسيحيين والمسلمين بسبب خطابه غير الحكيم في ألمانيا. وأعتقد أننا كمسلمين نعيش في وقت حرج للغاية ونستطيع التركيز بالكامل على الإسلام عندما يلتقي المذهبان في العالم الإسلامي.