مطلوب حكومة محايدة لإدارة الأزمة اللبنانية

TT

نجيب ميقاتي رئيس حكومة «ساعاتي». يقول: «على الإنسان أن يحسن التوقيت». وفي حياة ميقاتي، ساعات كثيرة. وَقَّتَ تجارته في قطاع الاتصالات الإلكترونية. فجنى أرباحا كثيرة. ووَقَّتَ عمله في السياسة. فجنى شوكا ووردا.

في لبنان، ليست هناك سياسة. هناك ساسة يحملون ساعات لا يجيدون توقيتها. راهن ميقاتي على الساعة السورية. فوصل. يقول: «أنا ضمن خط سياسي معيَّن ينسجم مع خط يرادف تطلعات الرئيس الأسد (بشار)». في الحكم، قال «...صداقتنا مع الرئيس الأسد شرف كبير لنا»! فعارضت حكومته فرض عقوبات دولية على نظام بشار. وسمّى ذلك «نأيا». وعارضت تعليق عضويته في الجامعة العربية. فسمّى ذلك «حيادا»! وظل يطالب بعلاقات «جيدة» مع النظام السوري، إلى أن شكت دول الخليج من سياسة لبنان المنحازة.

كان هناك تهويل دائم بانفجار «الساعة» في لبنان، إذا استقال الميقاتي. استقال الرجل أخيرا. وظلت ساعة لبنان «ماشية». لم تنفجر والأرجح أنها لن تنفجر. فقد اكتوى اللبنانيون بحرب أهلية مدة 15 سنة حصدت 150 ألف قتيل.

المدهش أن ميقاتي مسلح الآن بساعة جيب كبيرة. هذه الساعة الميقاتية موقوتة، على إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة. ولم لا؟

فعلاقة الميقاتي كانت جيدة مع «الأقلية» الوزارية السليمانية الجنبلاطية، في الحكومة المستقيلة. وليست بسيئة مع «الأكثرية» الوزارية الشيعية والعونية المارونية. وهو منسجم مع رفض الرئيس ميشال سليمان تأجيل الانتخابات، كي لا يحدث فراغ دستوري/ تشريعي، يُفاقم من التوتر الشديد في الشارع الشعبي.

وليد جنبلاط، كحليفه الرئيس سليمان، لا يعارض سن قانون انتخابي جديد. ولا يريد تأجيل الانتخابات. أما «حزب الله» فهو مصرّ على قانون انتخابي، يضمن له ولشريكه الأصغر ميشال عون «أكثرية» نيابية مريحة، لحكم لبنان في مرحلة مقبلة، قد يكون فيها نظام بشار غير موجود على مسرح المنطقة.

كان «حزب الله» يعرف أن الحكومة الميقاتية ستتحول إلى حكومة «تصريف أعمال» إن استقالت. وهذا الوضع المعلق والدائم، يضمن للحزب الهيمنة داخليا على لبنان. معدن الساعة الميقاتية، إذن، غير قابل للكسر. وعلى الأرجح غير مهيأ «للصرف».

الميقاتي، كحليفيه الأبعدَيْن (سليمان وجنبلاط)، لا يريد تأجيل الانتخابات. وفي الوقت ذاته، يقبل بسن قانون انتخابي جديد، يرضى به «حزب الله». لكنه وَقَّتَ استقالته مع استحقاقين ضمنا له استرداد قسط من شعبيته المتراجعة، في الشهور الأخيرة.

الاستحقاق الأول تلبيته المتأخرة لمطالب موظفي القطاع العام بزيادة الأجور. الاستحقاق الثاني إصراره على تمديد خدمة اللواء أشرف ريفي، وإبقائه على رأس جهاز «قوى الأمن الداخلي». عندما رفض «حزب الله» وعون التمديد لريفي، استقال ميقاتي. وهكذا، فساعة جيب الميقاتي موقوتة على توقعه تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة. فهو «الكاميكاز» الذي يقبل بمهمة خَطِرَة، قد لا يقبل مرشح آخر بأدائها.

كان الظن أن أزمة لبنان مرتبطة بـ«الساعة» الفلسطينية. بات لبنان اليوم معلقا بالساعة السورية. وفي ظني أن تشكيل حكومة تكنوقراط حيادية يرضى عنها مختلف الأحزاب والتيارات السياسية والطائفية، هي أكثر قدرة من أي حكومة سياسية، على إدارة الأزمة وليس حلها.

حكومة ذات ساعة حيادية غير موقوتة بـ«الساعات» المتفجرة للساسة المتناحرين، من شأنها تخفيف التوتر في الشارع الشعبي والطائفي. وإجراء انتخابات نظيفة غير موصومة بالاتهامات التقليدية. مع وجود «هيئة إشراف» يضمن الرئيس ميشال سليمان استقلالها وحيادها. وهو الذي أثبت نزاهته. وحياده المقبولين، على نطاق واسع شعبيا. وسياسيا.

جاء الرئيس سليمان (2007) على أساس إجراء حوار وطني كفيل بتطبيق استراتيجية دفاعية، قائمة على تنسيق عسكري، بين الجيش اللبناني و«حزب الله» غير أن الرئيس أخفق إلى الآن في مشروعه، بسبب عرقلة وممانعة القوى السياسية. وبالذات «حزب الله».

هذا الحزب يعاني من تناقض بين سياسته وآيديولوجيته. فلم يكتفِ برفض استراتيجية سليمان الدفاعية. إنما تمسك بالطائفية السياسية، بعد التظاهر بالمطالبة بإلغائها! بل أيد «المشروع الأرثوذكسي» الذي يدعو إلى انتخاب كل طائفة نوابها، الأمر الذي سيؤدي إلى تقسيم وتمزيق لبنان. في وثيقته الآيديولوجية (2009)، تحمس الحزب للديمقراطية التوافقية، فإذا به يحبط عمل ثلاث حكومات توافقية شارك فيها...

هل القوى العسكرية والأمنية للدولة اللبنانية، قادرة على مواجهة وإحباط أي محاولة «لحزب الله»، للهيمنة والسيطرة على لبنان بالقوة؟ ورطت إيران حزبها اللبناني في المجزرة السورية، فأفقدته شعبيته العربية والإسلامية. لكن ليس هناك في الداخل اللبناني ما يشير، بعد، إلى أن الحزب يتهيأ لاحتلال لبنان.

عمليا، الحزب في حالة انكفاء دفاعية. وفي اعتقادي أن الحزب غير قادر على اقتحام الخطوط الدفاعية المارونية أو السنية، حتى ولو استخدم عامل قوته الهجومية (50 ألف صاروخ. و25 ألف مقاتل. و50 ألف نصير من ميليشيا «الباسيج» المحلية). وهو حتما سوف يتوه في زحام من التنظيمات السلفية السنية. و«الجهادية» منها، لا تقل تدريبا. وبأسا، عن المقاتلين الشيعة.

في الحرب الأهلية (1975/ 1990)، انفرط عقد الجيش اللبناني. النظام العلوي السوري الذي بقي شرطي لبنان إلى انسحابه القسري (2005) لم يسمح بإعادة إعمار حقيقية وقوية، للمؤسسة اللبنانية العسكرية/ الأمنية.

في تقديري. أن هذه المؤسسة أعيد بناؤها، في شبه صمت، منذ ذلك العام. تعداد الجيش اللبناني هو الآن في حدود مائة ألف جندي، وليس على الأرجح عدد يذكر من الشيعة في صفوفه. أما الأجهزة الأمنية غير العسكرية، فتضم اليوم أكثر من أربعين ألف رجل أمن. غير أن الكارثة الحقيقية هي في «تطييفها» منذ عام 1998، بمعرفة وإشراف السوريين.

مع ذلك، جرت بسرعة عملية تسليح وتدريب الجيش وأجهزة الأمن، بمشاركة أميركية فاعلة. ثم جرت محاولة شيعية مضادة لعرقلة استكمال تسليح وتدريب أجهزة الأمن، وتزويد الجيش بالطيران. والدبابات. والصواريخ.

على أي حال، الجيش اللبناني، بقياداته العسكرية المحايدة سياسيا، يتمتع اليوم بثقة متزايدة لدى اللبنانيين. ويكفي الأجهزة الأمنية فخرا، أن شعبة المعلومات في جهاز الأمن الداخلي أبلغت النظام السوري، عن وجود 17 شبكة تجسس إسرائيلية كانت تعمل داخل قواته في لبنان. كما أبلغت «حزب الله» وتيار عون، عن وجود شبكات مماثلة.

كانت استقالة الميقاتي جيدة في توقيتها، بعدما رفض حزب الله وعون تمديد خدمة اللواء أشرف ريفي مدير هذا الجهاز. لم تشفع لريفي خدماته الأمنية. فقد اغتيل اثنان من أكفأ ضباطه، ليس بنار معادية (إسرائيلية). وإنما بنار «صديقة» عبر الحدود السورية. بل ربما من داخل الحدود اللبنانية.