أخطر من استقالة ميقاتي... ما وراءها

TT

ضجّت وسائل الإعلام في لبنان قبل أيام بالتعليقات على استقالة حكومة نجيب ميقاتي. غير أن اللافت اعتبار عدد من المحللين أن ما هو أخطر من الاستقالة.. الأسباب التي دفعت إليها في وضع متأزم محليا ومتفجّر إقليميا. وذلك أن عقلاء اللبنانيين كانوا يعلمون أن استقالة الحكومة «ممنوعة» إلى حين إنجازها قانونا جديدا للانتخابات يسعى حزب الله - المحتفظ بسلاحه - عبره إلى الاستحواذ على الحكم بصورة رسمية.

أساسا، تولّى ميقاتي رئاسة الحكومة في ظروف يتذكّرها اللبنانيون جيدا، أقل ما يُقال فيها إنها «انقلابية»، بعد استقالة وزير شيعي - كان قد عيّن بصفته وزيرا محايدا ضمن حصة رئيس الجمهورية - من الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري تضامنا مع وزراء حزب الله. وكانت حكومة الحريري قد شكّلت في أعقاب «اتفاق الدوحة» في ضوء فوز قوى 14 آذار بالغالبية البرلمانية في انتخابات 2009 بالتحالف مع الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط.

ولمن لا يتذكّر تفاصيل تلك الحقبة، جاء إقرار «اتفاق الدوحة» بعد اجتياح مقاتلي حزب الله بيروت ومحاولتهم الهجوم على الجبل ردا على قرار الحكومة إقالة العميد وفيق شقير مدير أمن المطار - المحسوب على الثنائي الشيعي حزب الله وحركة «أمل» - بعدما أثار جنبلاط مسألة نصب «الحزب» كاميرات مراقبة داخل المطار.

حزب الله اعتبر، وما زال يعتبر، أن شرعيته كـ«قوة مقاومة» فوق أي شرعية أخرى بما فيها وجود الدولة وسيادتها. وسبق للسيد حسن نصر الله، أمين عام «الحزب» أن سخر من منتقدي تجاوزه الدولة بقوله ما معناه «عندما تبنون دولة.. حاسِبونا!». وفي هذا التباس كبير ليس طارئا على المنطقة العربية، بل عاشته بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، عندما أطلقت في بعض الأوساط الفلسطينية - والعربية عموما - شعارات «حرب التحرير الشعبية» ومنها «استحالة التعايش بين الأنظمة والثورة».

وحقا، التعايش صعب بين ظاهرة سياسية - عسكرية لها آيديولوجية شمولية (أو ثيولوجية، في حالة حزب الله).. وبين مفهوم «الدولة»، من حيث هي مؤسسات وحدود وثقافة «تنوّع وتداول سلطة» تقوم على المساءلة والمحاسبة. تعايش كهذا صعب حتى بوجود رغبة صادقة فيه ومحاولات مخلصة لتدوير زواياه، لكنه يصبح مستحيلا عندما تكون شعارات التعايش مجرّد مناورات الغاية منها كسب الوقت للإجهاز على الخصوم.

لقد برّر ميقاتي، بالأمس، استقالته بأمرين خلافيين مترابطين هما: التمديد لقادة الأجهزة الأمنية، وتشكيل لجنة الإشراف على الانتخابات.

قوى 14 آذار، ومعها كتلة جنبلاط، تؤيد التمديد؛ لأنها تدرك استحالة إجراء تعيينات «متوازنة» في مناخ الاستقطاب الحاد داخل لبنان إزاء الأزمة السورية. وهي تتخوّف من مواصلة حزب الله قضم مفاصل الدولة، وعلى رأسها أجهزتها الأمنية، واستهدافه مباشرة قوى الأمن الداخلي التي يشغلها أعلى مسؤول أمني سنّي في لبنان.

وهنا لا بد من الإشارة إلى تعرُّض قوى الأمن الداخلي خلال السنوات القليلة الماضية لسلسلة استهدافات دموية ذات لون طائفي وسياسي واحد. إذ جرت محاولة لاغتيال العقيد سمير شحادة رئيس مكتب الأمن القومي في فرع المعلومات في الأمن الداخلي عام 2006. ثم اغتيل في مطلع 2008 النقيب وسام عيد رئيس المكتب الفني في مصلحة الاتصالات وشعبة المعلومات وصاحب الدور المحوري في تجميع المعطيات المتعلقة باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وأخيرا اغتيل رئيس فرع المعلومات نفسه اللواء وسام الحسن عام 2012. والآن يصرّ حزب الله على منع التمديد للواء أشرف ريفي قائد قوى الأمن الداخلي.

ما يربط الاستهدافات الدموية والموقف من ريفي أنها: أولا تتعلّق بالجهاز الأمني الذي يرأسه ضابط سنّي، في حين يرأس جهاز استخبارات الجيش وجهاز أمن الدولة ضابطان مسيحيان، ويرأس الأمن العام ضابط شيعي عيّن بموافقة حزب الله. وثانيا، تتّصل بالدور الفاعل الذي لعبته قوى الأمن الداخلي، وفي مقدّمها فرع المعلومات، في التحقيقات بجريمة اغتيال رفيق الحريري.

هنا قد يقول قائل إن جريمتي اغتيال عيد والحسن ومحاولة اغتيال شحادة جرائم مرتكبها مجهول، وقد تكون خلفها أصابع أجنبية تعمل على تأجيج الفتنة بين السنّة والشيعة في لبنان. وطبعا، هذا احتمال وارد. ولعل حزب الله يدرك وجود نيّات لتأجيج الفتنة الطائفية ليس في لبنان فحسب، بل على امتداد المنطقة. لكن الغريب أن «الحزب» يتصرّف كما لو كان يتعمّد اتهام نفسه بخدمة غايات موقدي الفتنة.. ويصرّ على ذلك!

فمنذ عام 2005، بعد اغتيال الحريري، عمل «الحزب»على تعطيل أي تحقيق في الجريمة وملابساتها، فجمّد مشاركة وزرائه في الحكومة، ثم سحبهم، وشلّ العاصمة اللبنانية في اعتصام طال لأكثر من سنة على خلفية استمرار مسلسل اغتيالات اللون الواحد.. وعند كل مفصل من مفاصل إجراءات المحاكمة. كذلك رفض تسليم المتهمين عند إصدار المحكمة الدولية قرارها الاتهامي.

ولكي يمعن أكثر في استفزاز الشريحة الأكبر من السنّة في لبنان، احتضن النائب ميشال عون، ألدّ خصومها وأشدّهم تهجمّا على رموزها. واختلق دُمى داخل الطائفة السنيّة وحماها وموّلها حتى هذه اللحظة. ودعم حتى اللحظة أيضا أي جماعة تناوئ هذه الطائفة، كما هو حاصل في منطقة جبل محسن بمدينة طرابلس.. التي هي مدينة نجيب ميقاتي وأشرف ريفي والمفتي مالك الشعار.. اللاجئ في أوروبا خوفا من الاغتيال! وأخيرا وليس آخرا، أقرّ بضلوعه في القمع الدامي للثورة السورية مع أن له وزراء في حكومة جعلت «النأي بالنفس» موقفا علنيا لها من الأزمة.

ميقاتي استقال لأنه ما عاد بمقدوره السكوت عن إذلال متعمّد تمارسه قوى ضالعة في مخطّط إقليمي أكبر بكثير من لبنان والحاجة إلى بقائه. وما عاد بمقدوره مواصلة تغطية مؤامرة «هيمنة وإلغاء» زاحفة على البلد والمنطقة برمّتها.