حقن تقوية.. جاءت في وقتها!

TT

أصعب بل أخطر ما واجهته القضية الفلسطينية منذ نشوئها حتى أيامنا هذه، هو التآكل المطرد في وزنها وموقعها، وذلك بفعل عوامل كثيرة، أكثرها حداثة ظهور قضايا موازية أكثر سخونة وأكثر إلحاحا، بل أكثر جاذبية للجهود الدولية والإقليمية للتعاطي معها، سواء من زاوية البحث عن حلول، أو من الزاوية الممكنة دائما وهي إدارة الأزمات وتعظيم أسهم القوى المؤثرة فيها.

وفي زحام القضايا «المنافسة» جاهدت القضية الفلسطينية من أجل البقاء على الأجندة الإقليمية والدولية، كانت تصعد من خلال أحداث معينة إلا أنها تعاود الهبوط، ولعل أبرز مؤشر على هذه الظاهرة ذلك الألق الساطع الذي التمع جراء التصويت المدهش لدول العالم في أمر تحسين مكانة فلسطين في الأمم المتحدة، إلا أن هذا الألق ما لبث أن خبا على نحو مأساوي، ما دفع أقطاب السلطة الوطنية إلى العودة إلى نقطة الصفر تقريبا.. بالقول إنهم يفكرون في تسليم مفاتيح السلطة لإسرائيل، بعد أن أصبح انهيارها أمرا يكاد يكون حتميا.

ومما ضاعف مأزق القضية الفلسطينية والقائمين عليها.. أن إسرائيل اعتصرت الوضع حتى آخر القطرات، فوسعت من مجال الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وتجاوزت الخطوط التي كانت تحذر تجاوزها فيما مضى، حين اقتربت من البدء بمشروع «E1» الذي يعني نهاية آخر الروابط الواهنة أصلا بين أجزاء الضفة الغربية وما يمكن أن يتبقى من القدس.

وبناء على ذلك، استفحل اليأس بين الفلسطينيين على مستوى القاعدة والقمة.. وبدا أن الأفق صار ملبدا بالغيوم السوداء، ولم يعد يُرى للفلسطينيين مستقبل يرتجى!! غير أن حقنة تقوية للإبقاء على الحياة جاءت هذه المرة من الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وذلك من خلال الزيارة الطويلة لإسرائيل والخاطفة للفلسطينيين، ويمكن فهم لماذا نعتبر هذه الزيارة بمثابة حقنة تقوية من خلال الرهانات الواقعية عليها، فهي أولا أعادت الحديث مجددا حول القضية الفلسطينية من الزاوية المنطقية، وهي التمسك الأميركي بحل الدولتين، وبما يجر وراءه من تشجيع لدول العالم الأخرى ولجزء من القوى السياسية في إسرائيل، التي ما تزال ترى في حل الدولتين الحل الأنسب حتى لو كان صعبا ومتعثرا، ذلك لا يعني أن العجلة بدأت بالدوران على طريق ممهدة لبلوغ هذا الحل على المدى المنظور، إلا أنه يعني بالضبط حقنة تقوية للفكرة تبعد اليأس المطلق عنها، وتقرب إمكانية البحث، ولو من جديد، في آليات تطبيقها.. وإلى جانب هذه الحقنة الضرورية في هذا الوقت، حصل الفلسطينيون على حل جزئي مهم ومعقول لأزمتهم المالية، التي أعاقت إقرار موازنة هذا العام ولو بعجز كبير، وعصفت بوزير المالية الفلسطيني ووضعت حكومة فياض على شفير التفكك والانهيار.

بعد ذلك جاءت القمة العربية، ومع أنني أنتمي إلى الأقلية العربية وحتى الدولية التي تنظر بإيجابية لهذه القمة.. نظرا لارتفاع أسقف الرهانات على النظام العربي، مما يحبط النفوس في أي مقارنة بين ما يجب أن يحدث وما يحدث فعلا، فإنني أرى أن الفلسطينيين كانوا أكثر المستفيدين من قمة الدوحة الأخيرة.

وإذا كنا لا نرى من يشتري بضاعة الالتزام العربي بالموقف السياسي الفلسطيني المنسجم دائما مع قرارات القمم، فإننا يمكن أن ننظر بقدر من التفاؤل للتحرك العربي المقرر نحو أميركا ودول العالم الأخرى، من أجل فتح الأبواب مجددا أمام عودة الروح والحركة للمسار التفاوضي الذي دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا لتوقفه على مدى سنوات.

إن التفافا عربيا قويا ودؤوبا ومشجعا من العالم حول المطالب المحقة للفلسطينيين والمؤيدة بقوة حتى من الأصدقاء التقليديين، لا بد أن يكون فعالا ومهما في زمن اليأس وتراجع القضية وراء القضايا المستجدة، ومعظمها، كما نرى، متفجرة وشديدة السخونة.

وهنا يقتضي التنويه بالمبادرة القطرية التي أصبحت مبادرة عربية بشأن القدس، فلقد جاءت في وقتها وبقي أن تتطور بإسهام الآخرين، وجعل صندوق القدس منافسا معقولا وفعالا لصندوق «موسكوفيتش»، وإذا كانت إسرائيل قد نظرت بسخط ومرارة لقرار من هذا النوع، فإن ذلك لن يحول دون المضي قدما في هذه المبادرة، واضعين في الاعتبار أنها تدعم مواطنين يقيمون على أرضهم وفي أحضان تاريخهم ومقدساتهم، وهؤلاء المواطنون الذين يعدون بمئات الألوف، يمكن أن يكونوا نواة سلام عادل وليسوا إطلاقا بؤر إرهاب وعنف.

هذه هي حقن التقوية التي جاءت في وقتها للفلسطينيين شعبا وقضية، وبقدر ما يوفرون من آليات محكمة لضمان وصول الدعم إلى الوجهة التي قرر من أجلها، نقول إن هنالك صمودا مؤثرا لا بد أن يفضي يوما إلى حل أكثر موضوعية وعدالة للقضية الفلسطينية.