أميركا والصراع السوري!

TT

ثمة إشارات متعددة تدل على انخفاض سقف التوقعات بموقف أميركي جديد من الحدث السوري، آخرها التصريح المباغت لجون كيري عن دعوة المعارضة لحوار مباشر مع النظام، بما ينطوي عليه من تراجع عن ترتيبات خطة جنيف وأولوية تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، وقبله جاء تأويل أحد المسؤولين الأميركيين لفكرة رحيل النظام السوري، بأن هذا لا يمنع التعاطي السياسي معه، ولا يتطلب الحماس لانتصار ثورة يزداد وزن الإسلاميين المتطرفين في صفوفها، مما يعني أن السياسة الأميركية تجاه سوريا لا تزال تحفل بالغموض والتردد وبسهولة تبدل المواقف، حيث يصل أحيانا إلى حد التناقض، إن من النظام أو من المعارضة أو من الدور الأممي. الولايات المتحدة التي أدانت صفقات السلاح الروسي إلى سوريا وهاجمت «الفيتو» وحملت الكرملين مسؤولية استمرار العنف في البلاد، هي ذاتها التي تؤكد على دور مفتاحي لموسكو في معالجة الأزمة السورية وعلى أولوية العمل من خلال مؤسسات المجتمع الدولي ودعم خططها ومبادراتها، بما في ذلك دور المبعوثين الدوليين وخطة جنيف. الولايات المتحدة التي كررت الدعوات لرحيل النظام وأعلنت عدم أهليته للحكم، وشددت العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليه، وهددت بمنطقة عازلة أو بحظر جوي مع تزايد العنف وأعداد اللاجئين، وحذرت من عقاب رادع في حال استخدام السلاح الكيماوي، هي نفسها التي تكرر عدم وجود نية للتدخل العسكري المباشر، وتشدد على المطالبة بإيجاد حل سياسي للأزمة، وتتحسب من مد المعارضة بأسلحة تساعدها على تعديل التوازنات القائمة، وتكتفي بالدعم اللفظي لقوى الثورة والإكثار من مؤتمرات لا طائل منها لمن يسمون أنفسهم «أصدقاء الشعب السوري».

والحال، لم يعد يقنع أحدا، بعد عامين من انطلاق الثورة، القول إن واشنطن لا تملك رؤية واضحة في التعاطي مع الحدث السوري، مثلما لم يعد مقبولا تبرير تردد السياسة الأميركية وتناقض مواقفها من تفاقم الصراع هناك بذريعة موقع هذا البلد وطابع تحالفاته، أو لأنه غير مدرج ضمن أولويات اهتماماتها، أو لأن الدور الأميركي فقد الكثير من حيويته بسبب ما عاناه في العراق وأفغانستان وبسبب تفاقم أزمته الاقتصادية والتفاته لمشكلاته الداخلية، إذ ثمة في الحقيقة أسباب ومصالح متضافرة وراء ما يصح تسميته بنهج خاص للسياسة الأميركية في التعاطي مع الحالة السورية يتقصد السلبية وعدم الاكتراث، ويتوسل مواقف مبهمة ومتناقضة، لترك باب الصراع مفتوحا وتغذية استمراره من دون أن يصل إلى لحظة الحسم.

بداية، هي فرصة لن تفوتها القيادة الأميركية في استثمار الساحة السورية لاستنزاف خصومها وإضعافهم، كروسيا وإيران، وقد بدأتا بالفعل الغرق في المستنقع السوري، ويبدو في حساباتها أن مد زمن الصراع، ربما حتى آخر سوري، يفضي إلى إنهاكهما ماديا وسياسيا وتشويه سمعتهما أمام الشعوب العربية على حساب تحسين صورتها، وفي الطريق الإفادة من هذه الأجواء كي تعزز بأقل ردود فعل حضورها العسكري في المنطقة، مثلما حصل في تمرير التفريعة التركية من الدرع الصاروخية ثم نشر أنظمة «باتريوت» على طول الحدود السورية - التركية. بهذه السياسة تضع واشنطن إحدى عينيها على العراق والأخرى على الخليج العربي، وهما مربط الفرس لإمدادات الطاقة، مرة لرد الصاع صاعين للطرف العراقي الذي أجبرها على سحب قواتها بصورة مذلة، والتمهيد لتوازنات جديدة تكون بأمس الحاجة لإعادة الدور الأميركي من أجل ضمان وحدة العراق وتنميته وأمنه الإقليمي، ومرة أخرى، لغرض استراتيجي، ربما يندر الحديث عنه، حول وجود مصلحة أميركية مضمرة في الإبقاء على محور الممانعة، لكن بصورة ضعيفة، ما دامت تدرك حجم الضربة التي سيتلقاها في حال كسر الحلقة السورية، والمغزى أن تحافظ على استمرار هذا البعبع الإقليمي في مواجهة المحور العربي، بما يساعدها على تطويع هذا الأخير وضمان استمرار حاجته العسكرية والأمنية لها، مما يفسر المفارقة المخجلة بين الموقف الأميركي من الثورة السورية مع أن نظامها هو الأشد عداء لواشنطن، ومسارعتها للتدخل الحاسم في ثورات كانت أنظمتها حليفة لها، ويفسر تاليا المماطلة الأميركية في التعامل مع الملف الإيراني وجعل التهديد المستمر بقدرة طهران على امتلاك السلاح النووي أحد أهم العوامل الضاغطة على العرب والحافزة لتعزيز علاقاتهم مع واشنطن وتمكين حضورها في المنطقة.

«بلدانهم أولى بهم».. هي كلمات لأحد المسؤولين الغربيين في معرض رده على نفوذ «القاعدة» والتيارات الإسلامية المتطرفة في الثورات العربية، وارتياحه لأن ذلك أيقظ العديد من الخلايا الجهادية النائمة في بلدان أوروبا وأميركا وجذبها إلى هناك، وعليه يجب الأخذ في الاعتبار المصلحة الأميركية في اغتنام الصراع السوري لتصفية الحساب مع تنظيم القاعدة والنيل من قادته وكوادره، ربطا بوقائع تزداد وضوحا مع كل يوم يمر عن تحول الساحة السورية بالفعل إلى بؤرة جاذبة لعناصر وقوى إسلامية متطرفة توافدت من مختلف البلدان وتوظف جل إمكاناتها لحسم ما تعتبره معركة مصيرية على وجودها ومستقبلها، مما يوفر فرصة ثمينة في حال طال زمن المعركة لتوجيه ضربات مهمة لهذه العناصر والقوى بسلاح النظام السوري ذاته تضعفها وتحد من قدرتها على النمو والتجدد.

وأخيرا، لا يخطئ من يعتبر النهج الأميركي استجابة خفية للمصلحة الإسرائيلية التي باتت تدرك عجز النظام السوري عن الحكم وتتحسب من البديل القادم، وتحبذ تاليا تغذية استمرار الصراع والعنف حتى يستنزف أطرافه، وحتى تصل البلاد إلى حالة من الخراب والتفكك، وتحتاج لعشرات السنين كي تنهض من جديد، وهو أمر يطمئن تل أبيب على استقرارها وأمنها، وما يعزز هذا النهج عدم وجود إعلام أميركي مهتم بالشأن السوري وغياب رأي عام هناك يمكن أن يتحرك أخلاقيا للضغط على إدارة طالما ادعت نصرة حقوق الإنسان لوقف عنف مفرط لا يحتمله عقل ولا ضمير.