مشاهد النهايات في حصار مدينة الإنتاج الإعلامي

TT

نقيب الصحافيين الجديد، الدكتور ضياء رشوان، عجز عن دخول مدينة الإنتاج الإعلامي أثناء حصارها الأخير، كان أقل حظا من زملائه الذين تسللوا إلى المدينة من خلال ثغرات لا يعرفها المحاصرون، وربما كان يعرفها غير أنه وجد أن دخوله منها متسللا أمر لا يليق بنقيب يثق في الجماهير وبقدرته على الحوار معها، بالتأكيد هؤلاء الشبان الغاضبون تلقوا قدرا من التعليم يجعلهم قادرين على التحاور معه. غير أنه في اللحظات الأولى للحوار اكتشف أنهم تعلموا فقط جدول الضرب قبل أن يتركوا المدارس، فانسحب سريعا من المكان واتصل بالسيدة الدكتورة باكينام الشرقاوي المستشارة السياسية لرئيس الجمهورية وطلب منها إبلاغ السيد الرئيس، أن مشهد حصار مدينة الإنتاج الإعلامي من مشاهد النهايات المعروفة في التاريخ، وأن العالم كله يشاهد الآن هذا الحصار. ثم أضاف أن هذا الحصار يعني أن هناك مؤامرة على رئاسة الجمهورية. ثم طلب منها أن تبلغ الرئيس بذلك. مصدري لهذه الحكاية هو النقيب نفسه الذي حكاها في الفضائيات. لقد اخترت هذا المدخل للتفكير في حكاية «مشاهد النهايات» وهل حقا هناك مشاهد تعني نهاية حقبة معينة وعصر معين؟ أم أن تشخيصه ناتج عن التفكير بالتأمل في حلول تنهي ما نحن فيه من آلام.

إن مشهد النهاية في العمل الفني الدرامي هو أهم ما ينشغل به كاتب الدراما، لأنه على الأقل يحدد مشاهد البداية بل ويعطيه القدرة على توجيه الأحداث وقيادتها بغير تعسف إلى محطتها النهائية وهي مشهد الختام. لقد أدرك النقيب بحسه التاريخي كدارس للعمل السياسي، أن هذه المشاهد تعني نهايات الأشياء، ولكن أية أشياء؟ هل تعني نهاية مرحلة الرئاسة الأولى قبل موعدها الطبيعي وهو ما تطالب به أحزاب كثيرة؟ إذا كان لي أن أتطوع بالإجابة فأنا أقول: الشرعية من أهم الثوابت في العقل الجمعي المصري، وهم على استعداد للتظاهر ضد النظام في كل يوم وفي كل شارع وفي كل حارة وفي كل زنقة، غير أنه لا أحد يطلب منه الرحيل أو يبذل جهدا جادا من أجل ذلك. هناك حقيقة يعترفون بها وإن كانت تؤلمهم وهي أنهم قد اختاروه في انتخابات حرة. لقد رحل الرئيس السابق مبارك بعد أن تخلى عن الحكم لبعض مساعديه ومؤسساته وليس لأن قوى الشارع أرغمته على ذلك. الوعي الجمعي واللاوعي الجمعي وهو الأكثر تأثيرا في سلوك البشر يقر بحقيقة أن الرئيس محمد مرسي من حقه أن يكمل فترة رئاسته الأولى. ومع ذلك فالنقيب بالفعل صادق مع نفسه عندما أحس بنهاية أشياء.

الذي انتهى بالفعل كتشكيل ديني واجتماعي وسياسي هو جماعة الإخوان المصرية، وربما يقول المؤرخ بعد مائة عام أن وصولهم إلى السلطة، كان يحدد لحظة نهاية الجماعة كتشكيل فاعل. وربما يقول كثيرون وأنا منهم، إنهم في اللحظة التي كونوا فيها حزبا سياسيا، كان على حكمائها إلغاؤها على الفور لعدم حاجتهم وحاجة المجتمع المصري إليها بعد تكوين حزب وصل بهم فعلا إلى السلطة في أولى جولاته السياسية. كل من اكتسب حسا تاريخيا يعرف جيدا أن نجاح الحزب في الحكم يتوقف على إلغاء هذه الجماعة بقرار من داخلها وليس من سلطة خارجها. وأن البديل الوحيد لذلك هو وجود سلطتين على رأس النظام تقوم كل منهما بالحد من حرية الأخرى في أفضل الأحوال، أو أن تكون إحداهما عبئا على الأخرى في أسوئها، ويدفع الشعب في النهاية ثمن ذلك. من بين المعارك العديدة الدائرة في مصر الآن توجد معركة حول الشرعية القانونية لوجود الجماعة، والقوانين كانت السلاح الوحيد في هذه المعركة، فريق يحاول إثبات عدم وجودها قانونا وفريق يحاول إثبات العكس، ولو أن أحدا من الفريقين فكر قليلا لاكتشف بسهولة أن وجود الجماعة يستند إلى أقوى القوانين في الدنيا وهو واقع الأمر أو الأمر الواقع، هي موجودة بقوة وجودها، والوحيد الذي له سلطة إنهاء دورها هو التاريخ. والتاريخ لم يوزّع علينا بعد جداول يحدد فيها فترات حياة الجماعات أو الجمعيات أو الفرق السياسية والدينية. هذه جماعة عمرها الآن بالتحديد خمسة وثمانون عاما، هل لديها ما تقدمه للمستقبل لكي يمد التاريخ في عمرها معطيا إياها الفرصة لتعطي للناس المزيد مما هم في حاجة إليه، أم أنها انتهت بنهاية عصر عبّرت عنه بإخلاص؟

أنا أعتقد أن أعضاء الجماعة يساورهم قلق شديد بشأن هذا الأمر، بدليل أنهم تقدموا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية طالبين تحويل الجماعة إلى جمعية، وتم لهم ذلك بالفعل، غير أننا اكتشفنا بعد لحظات أن شيئا لم يتغير، كانوا جماعة وتحولوا على الورق إلى جمعية جماعة. هي كما ترى حيلة إدارية وسياسية لا تغير من الواقع شيئا. غير أنها في كل الأحوال تتيح لهم أن يدافعوا عن أنفسهم بوصفهم جمعية قانونية قائمة، كما يستطيعون ذلك أيضا بوصفهم جماعة مشكوكا في صحة وجودها قانونا، وهناك خطة طوارئ احتياطية هي أن يدافعوا عن أنفسهم كحزب سياسي قائم هو الحرية والعدالة. هذا هو بالضبط ما ينهي وجود الجماعة والجمعية، هذه طريقة في التفكير لا تنتمي لعصرنا هذا، بل لعصور الحيل.

من المستحيل عزل البشر وأفعالهم عن ثقافة عصرهم، على مستوى العالم وعلى مستوى المنطقة، كان الفكر القومي في نهاية عشرينات القرن الماضي يسيطر على العالم، هكذا عاشت الجماعة في ظل فكر قومي يمجد (الكل × واحد) سياسيا أو دينيا، وفي ظل الاحتلال الإنجليزي وأحزاب مصرية قوية تعمل على الوصول إلى الاستقلال والدستور، وحتى بعد ثورة يوليو ازداد الفكر القومي لمعانا وقوة، كانت الجماعة إذن طول الوقت جزءا طبيعيا في النسيج العام، والسرية في العمل العام وخاصة في التنظيمات السرية، تحتم الكذب والألاعيب والحيل. وهي بالضبط الخواص التي لا يعترف بها بل ويحاربها عصرنا الحالي. من الصعب إن لم يكن من المستحيل علي أن أصدق الآن وجود جماعة سياسية أو اجتماعية أو دينية تعتمد على الحيل.

ظهور تكنولوجيا جديدة في التاريخ يدفع الناس إلى التفكير بطريقة مختلفة تماما عما ألفوه من قبل. ومع ظهور الشبكة العنكبوتية تحول العالم فعلا إلى قرية صغيرة، كل ما تفعله، كل ما تقوله سرا أو علنا، كل ما تفكر فيه، كل ما تخطط له، معروف للآخرين جميعا في كل أنحاء القرية. لا يوجد في السياسة الآن ما يسمى الحيلة والحيل. ومحاولة إخفاء حقيقة ما تفكر فيه أو تفعله نوع من البلاهة لم يعد يقبلها العصر، وعندما نقوم بتحويل الكلمات والأفكار إلى ثعابين وسحالي تتلوى أمام الناس والكاميرات، فهذه مدرسة في العمل العام لم يعد لها وجود ولم يعد يقبلها أحد. غير أن كل أنواع التكنولوجيا على الأرض، ما ظهر منها وما لم يظهر، لا تستطيع تغيير أهم قاعدة في السياسة وهي «امشي عدل.. يحتار عدوك فيك».