دول الخليج.. اللحظة القادمة!

TT

مع نهاية عام 1991 وبزوغ العام التالي، فإن غروبا آخر قد خلخل النظام السياسي العالمي من جذوره، ساحبا بقايا ثقافة الصمت والتعتيم والفكر الشمولي إلى أقبية الماضي، ومؤذنا بعالم آخر مختلف، وصلت ارتداداته أطراف الكرة الأرضية، وكان الخليج واحدا من أكثر المناطق التي عاشت ـ ولا تزال ـ تجليات ذلك الحدث. لقد أصبح انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة هما التاريخ الرسمي المعتمد للثورة التكنولوجية الثالثة، أو ما يعرف بثورة التكنولوجيا والمعلوماتية. ومع انهيار «جدار برلين»، انهارت كل الجدر، وأصبحت الفضاءات مفتوحة على كل الجهات والتوجهات والأفكار والبشر، وصارت فكرة الحجب والمنع والرقابة من كلاسيكيات الماضي، وبدأنا كدول تصنف على أنها محافظة ـ سياسيا واجتماعيا ـ تعاني ازدواجية التعاطي مع كل ما كان يجري وينهال من كل مكان!

كدول تتمتع بمداخيل نفطية وثروات هائلة، في منطقة تعتبر واحدة من أكثر مناطق العالم توفيرا للوظائف واستقطابا لقوى العمل، إلى جانب حداثة بناها الثقافية وتجربتها السياسية وقنواتها الإعلامية ـ فإن واقعا ديموغرافيا مختلا قد تأسس في دول الخليج. أما السبب، فسياسات النمو والطفرة الاقتصادية، بالإضافة إلى الواقع السياسي الجديد الساعي لدمقرطة العالم العربي والإسلامي، بشكل عام، كطريق وحيد لمواجهة حركات التطرف، كما يعتقد الغرب، الذي بدأ مثقفوه يتحدثون بصوت عال حول صراع الحضارات وصدام الثقافات وأن الإسلام هو العدو الجديد للحضارة الغربية.

كل هذه المعطيات صبت في مجرى واحد قاد إلى انفتاحات سياسية وإعلامية واجتماعية غير مسبوقة في بنية الأنظمة الخليجية، مما يجعل وصف «محافظة» لا محل له من الإعراب!

إن المرونة السياسية التي تتمتع بها معظم أنظمة دول الخليج العربي في تعاطيها مع متطلبات الداخل واستحقاقات الخارج، الذي نحن جزء لا يتجزأ منه ـ جعل ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية إنجازا وتحديا ضخما في الوقت نفسه. ولا يمكننا بأي حال، كدارسين وباحثين في علوم السياسة والإعلام، نسيان تلك الحقيقة التي أكدها الألماني هابرماس في ما يخص الفضاء العام، الذي هو عبارة عن المناخ العام في المجتمع، الذي يسمح بانتقال الأفكار ووجهات النظر وتداولها بين الناس، وإثارة شهية الجدل والنقاش والاختلاف حول مختلف الموضوعات والسياسات المطروحة.

سيبدو السؤال مشروعا في هذه الحالة.. هل يمكن أن نعتبر شيوع وسائل الاتصال الجديدة والإعلام الاجتماعي بهذا القدر في مجتمعات الخليج شكلا من أشكال الإقرار بأهمية وجود فضاء اجتماعي تفاعلي بين أفراد المجتمع؟ وهل تستطيع هذه الدول، أو هل هي مستعدة فعلا لتداعيات هذه الصالونات الأدبية «الفضائية» أو الافتراضية بكل ما تتضمنه من توجهات وأفكار حداثية جدا؟

هل يمكن لبنية الأنظمة السياسية الخليجية أن تجسر الطريق للديمقراطية واستحقاقاتها ـ التي تحتاج زمنا وتراكما مؤسساتيا وثقافة وتقاليد وغير ذلك ـ عن طريق المزيد من حريات الإعلام وإتاحة أنظمة الاتصال، ومواقع التواصل الاجتماعي؟

لكن الحقيقة الصادمة التي علينا أن نعيها، هي أن حريات التواصل والاتصال ليست سوى أحد أشكال الثورة المعرفية. كما أنها أحد الروافع التي يتم بها الوصول والتأثير والاختراق. فهل تكفي الموبايلات، والقنوات الفضائية التي لا تعد ولا تحصى، وغرف الدردشة، و«تويتر» لتحقيق الانفتاح والفضاء العام الاجتماعي الحر؟

نزعم هنا أن الصالونات الأدبية والمقاهي والأندية التي شاعت في أوروبا إبان أزمنة للتنوير لم تعد ممكنة حاليا، أو هي إفراز مجتمع أوروبي له خصوصيته. كما نزعم أن مواقع التواصل الاجتماعي اليوم تثير من القضايا والسجالات ما كان يعتبر «تابوها» محرما منذ سنوات قليلة ماضية، وهذا بحد ذاته مؤشر إيجابي يجب ألا يغفل أبدا، إضافة إلى أن الحالة الإعلامية المتقدمة يقودها جيل من الشباب، درس معظمه في جامعات الولايات المتحدة وأوروبا، ومن هذا الجيل ظهرت قيادات شابة في مجالات علمية واقتصادية وفنية وإبداعية وثقافية يمكن تصنيفها على أنها من موجات ما بعد الحداثة، وها هي المرأة الخليجية قد كسرت حالة العزلة الاجتماعية لتشغل كل أماكن العمل العام والخاص.

إن دول الخليج تعيش لحظتها التاريخية الحقيقية، مستعينة ومستفيدة من تجليات الحداثة وثوراتها، وأيضا من أفول نجم أنظمة كانت لأيام قريبة تشكل مراكز الثقل والاستقطاب الإقليمي والعربي، مما يعني أن دول الخليج تعد بنظام حديث يتوفر على مقومات كثيرة سيقود المنطقة في السنوات المقبلة، وأن تحولات جوهرية كبيرة في داخله تلوح في الأفق.

* كاتبة إماراتية