المواطن الشيعي السعودي

TT

من السهل أن تحيل إلى العداء الطائفي أو الإثني والعرقي في تفسير التوتر والمشكلات السياسية والاجتماعية، هكذا بإطلاق.

التفسير الديني والتاريخي المغلق، الأصم، غير المتغير، بفعل الزمان والمكان، وتعقد المصالح، هو تفسير سهل في القول، وسهل في التناول، وسهل في البث بين الجمهور، لا يكلف شيئا هذا التفسير، ببساطة: نحن جيدون وغيرنا سيئون، ولأنهم سيئون فهم، بطبعهم، يريدون الإضرار بنا.

هذا الطرح في خضم التوتر الديني والإثني في المنطقة، يغذي طاقة المتقاتلين المنغلقين من كل طرف، ويصبح في مناخ الحرب، وقودا معنويا تعبويا.

بعد الإعلان السعودي الأخير عن القبض على متهمين سعوديين بالتجسس لصالح إيران، ومعهم شخصان، إيراني ولبناني، وبعد توجيه الاتهام الرسمي المباشر لإيران بالوقوف خلف هذه الشبكة، تصاعد الغضب، وهو غضب مشروع، لدى كثير من السعوديين على هذا الانتهاك الإيراني الصارخ للأمن السعودي، وعلى تورط مواطنين في هذه الجريمة، على الأقل حتى ساعة الاتهام المعلن، بانتظار كلمة الفصل القضائية. ومن هذا الوصف، وصف «مواطنين» أريد الانطلاق في حديثي هذا، حول تشوش المعاني حول العلاقة بين المواطنة والهويات الأخرى.

أضرب لكم مثلا على بعض المقاربات «الضارة» لهذه القضية لدى بعض أهل الرأي في السعودية.

الأحد الماضي قرأت مقالة للكاتب في صحيفة «الجزيرة» السعودية الدكتور عبد الله المعيلي بعنوان: الولاء للوطن مرهون بالولاء للدين.

يفسر فيها الكاتب تورط العناصر التجسسية التابعة لإيران بأن فساد التدين وانحرافه عندهم هو الذي أدى لتورطهم في هذا العمل السياسي الأمني، وختم مقاله بالقول: «لقد برهن أعضاء خلية التجسس أن الولاء للدين مطلب رئيس للولاء للوطن، لذا فإن تدريس الولاء والبراء في المراحل الدراسية أمر يجب ألا يخضع لاجتهاد أحد لكون الإحاطة بمدلولاته ومعانيه مطلبا شرعيا ووطنيا تقتضيه الضرورة في كل زمان».

لا خلاف مع الدكتور المعيلي في تجريم وإدانة كل من يقوم بعمل خيانة للوطن وأمنه، بل ويجب مكافحة كل من يسهل لهم ويسوّغ أعمالهم.

كما أنه لا خلاف معه في نقد البيان الذي وقعه «بعض» نشطاء الشيعة في نفي وجود هذه الشبكة، من الأساس، والمسارعة في اتهام السلطات السعودية بفبركة هذا الأمر، كما زعموا في بيانهم، وقد سبق لكاتب هذه السطور التعليق على هذا الأمر.

هذا مفروغ منه، لكن الخلاف مع الدكتور المعيلي، وهو كان قياديا مهما في قطاع التربية والتعليم، هو في المقاربة الدينية المحضة للموضوع، وفق تصور معين للتدين، وهذا في الواقع كلام غير دقيق وغير عملي.

لا نريد أن نسأل عن أي معنى للولاء والبراء يقصد، وبأي فهم، ونعتمد فهم أي مدرسة فقهية له؟ خصوصا ونحن رأينا تقلبات عدة في الموقف من الشيعة، مرهونة بالمتغيرات السياسية، فالموقف من الشيعة، ممثلين في حزب الله اللبناني، في حربه مع إسرائيل، كان موقفا تمجيديا من قبل بعض رموز الوعظ والدعوة في السعودية، لكنه اختلف مع حرب سوريا الحالية... وهكذا نمضي في مسار زلق غير ثابت، وكله يسوَّق بلافتة دينية.

كما أن الاتكاء على مثل هذه المفاهيم، بلا تمييز وتمحيص، و«تأريخية» للمفهوم، كان مما ذكر في تفسير ظهور الفهم المتطرف للعلاقة مع الآخر المختلف دينيا وطائفيا، خصوصا مع مجاميع «القاعدة» وشبانها المنغلقين، ولا حاجة لنا للإفاضة حول هذا الأمر. و«القاعدة» تكوين ينتمي للعالم السني ولا علاقة له بالعالم الشيعي كما يعلم الجميع.

أما الحديث عن «تطوير» أو إصلاح المنظومة التربوية، شاملة المقرر المدرسي، والمنهج الصفي واللاصفي، فقد بذل فيه السعوديون، منذ اندلاع الإرهاب في 2003، الكثير من النقد ومحاسبة الذات، والصحافة السعودية خلال الـ10 سنوات الماضية تحوي سجلا حافلا بهذا النقد الذاتي.

كما أنه لا يخفى أن مثل هذا الكلام «الإقصائي» لا يعني إلا صب الزيت على النار، فهل يراد من مثل هذا الطرح أن نمعن في تكفير الشيعة ونعلم ذلك أبناءنا؟ أين تكمن الحصافة، والإنصاف هنا، بل والنزعة العملية للحل، في مثل هذا الطرح؟!

هذه وصفة مباشرة للتوتير والإقصاء وحشر المختلف في زاوية التكفير والنبذ، فماذا ننتظر منه بعد ذلك؟! الحب والمودة؟! إن هذا لمن غرائب الفكر والعبر.

لا مناص من قبول المختلف عنك، كما هو، ولا تجبره على تغيير ثقافته وفهمه، إما أن تقبله كما هو، أو لا. تلك هي المسألة، والحصيف هو من يبحث في المساحات المشتركة مع الآخر، وليس في المساحات المتنافرة، ويتأكد هذا الأمر في أوقات التوتر، وليس أوقات الرخاء.

من هنا كان مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مشروعا عظيما في حماية النسيج الوطني الداخلي وتعزيز الهوية الجامعة، وذلك حين دشن الحوار الوطني وجمع المختلف وعمق المؤتلف، كانت العمامة الشيعية بجوار «الغترة» السنية، في مجلس الملك، وكلهم تحت راية الوطن السعودي، هذا هو الإنجاز الصعب، وليس تعميق الفرقة، وتكريس الاختلاف.

ثم إن هذا هو حديث التاريخ القريب والبعيد، فقد كان الملك المؤسس عبد العزيز حريصا على جمع الكلمة بين شتى مكونات الدولة، ونعلم مراسلاته لأعيان القطيف، وتعهده بحفظ الأمن وحماية الحقوق لهم، بوصفهم لبنة من لبنات الدولة الكبرى التي سقاها عبد العزيز، ورجال عبد العزيز، بماء العيون، وزهر الدم.

وقبل عبد العزيز حتى، كان رجل الدولة السعودية الثانية، الإمام فيصل بن تركي، وهو الشهير بتدينه، يسارع لإرسال القوات لحماية أهالي القطيف والأحساء من تعديات وغارات المنفلتين عن الأمن، وهؤلاء الغزاة كانوا من أهل السنة، ولم يسأل فيصل عن مذهب هؤلاء ولا هؤلاء، بل قام بواجبه بوصفه قائدا مسؤولا عن توفير الأمن لكل سكان دولته.

إن الطرح الإقصائي يلد طرحا إقصائيا مضادا، ونظل ندور في حلقة مفرغة. يتعزز الطرح المتزمت الثوري لدى المختلف، بزيادة الطرح الإقصائي لدى الطرف الآخر، في علاقة عضوية غريبة. يظهر لنا مثل: نمر النمر، وياسر الحبيب، كلما ظهر في المقابل من يكفر ويشيطن الشيعة بالجملة، وبجهل مريع، وطرح تكراري نسقي لا يحفل بتحولات التاريخ والزمان والمكان والمصالح المعقدة.

الواجب، من الناحية العملية حتى وليس فقط المثالية، هو تقليص دائرة الخصوم والكارهين، وليس توسيعها، فما بالك بـ: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى »؟!

إن الشيعة في السعودية لهم تاريخ حافل في الاقتصاد الوطني، ويكفي تذكر الجيل الرائد منهم في كبرى الشركات الاقتصادية السعودية، شركة «أرامكو»، التي كان من نتاجها المهندس الناجح نظمي النصر: «دينامو» مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا «كاوست». وغيره كثير من العلامات السعودية المضيئة.

الصحيح هو تعزيز الهوية الوطنية من خلال تحويل التنوع الطائفي أو الثقافي فيها إلى عامل ثراء وقوة لهذا البلد الكبير والشامخ، وليس التقوقع والفهم الضيق. هذا ما لا يقره الواقع المعيش، ولا التاريخ الغابر.

السعودية، بقيادة الملك عبد الله بن عبد العزيز، الملك الحصيف والمحب لكل أبناء شعبه، هي للجميع، وإلى الجميع، ومن الجميع. يجب أن تظل هكذا دوما، فهذا هو قدر الكبار.

[email protected]