من بوذا إلى عيسى (ع)

TT

تعتبر البوذية من أكثر المذاهب غير الإلهية تطرفا ضد العنف. تعود تعاليمها إلى الحكيم بوذا (المتيقظ) الذي ظهر قبل نحو ألفين وخمسمائة سنة في شمال الهند، ومنها انتشرت تعاليمه إلى الصين واليابان وجنوب آسيا. أخذت تعاليمه شريعة الدارما التي تحث على التمسك بالحب وتحاشي أي عنف أو حمل الأحقاد ضد أي عدو أو إيذاء أي مخلوقات حية. يقولون: حتى إذا قام لصوص بقطع أطرافك فعليك ألا تأخذ أي موقف معادٍ لهم.

أدى هذا الموقف إلى الكثير من المناقشات بين البوذيين خلال الحرب الفيتنامية. فرغم أن البوذية تعطي الراهب حق الدفاع عن نفسه، فإنها تحرم عليه قتل الخصم. طرحوا هذه المعضلة في إطار الحرب الدموية الجارية في فيتنام على كبير فقهائهم ناهت هان. سألوه ماذا إذا تعرضت للقتل؟ أتتقبل ذلك؟ قال نعم لأن الأساس هو الحفاظ على مفهوم الدارما. سأموت ولكن الدارما ستبقى وتنتصر.

بقيت البوذية محصورة في شرق آسيا، أما في منطقة البحر المتوسط فقد ترددت الفكرة على لسان السيد المسيح عليه السلام، كما أفصح عنها في خطابه الشهير على جبل الزيتون. شاعت بين الناس كلماته: إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وسار في مساره الحواريون وقادة الكنيسة من بعده. أصبح محرما على المسيحي أن يحمل السلاح ويقاتل الآخرين. سجل التاريخ مواقف خالدة على هذا الغرار. تفجرت المشكلة عندما أخذ كثير من الرومان يدخلون دين المسيح. فلم يعد بإمكانهم مواصلة مهمتهم كجنود فاتحين لهذه الإمبراطورية الضاربة الأكناف. هكذا أجاب الضابط الروماني مكسمليان على نداء الواجب العسكري فقال: أنا مسيحي وعليه فأنا لا أقاتل. وعندما اعتنق القائد مارسيلوس الدين المسيحي، جمع جنوده ونزع دروعه وسلاحه وألقى بها على الأرض أمامهم وقال: أنا الآن كمسيحي لا يجوز لي أن أقودكم.

خلق ذلك مشكلة للإدارة فبادرت إلى اضطهاد المسيحيين وتحدتهم بأن ألقت بهم في حلبات مصارعة الأسود وأبطال الغلادييتر. قالوا لهم دافعوا عن أنفسكم. حصلت مشاهد مروعة خلدت في التاريخ عندما رفضوا بالفعل الدفاع عن أنفسهم ومقاتلة الخصم. وخلال ذلك صدرت شتى الفتاوى من قادة الكنيسة تدعم هذا الموقف وتشد على يد المسيحيين في التمسك بأسس المحبة والسلام.

غير أن الإمبراطور قسطنطين قرر اعتناق هذا الدين الجديد وفرضه على المواطنين. ولكنه هنا خلق مشكلة للسلطة. فهذه إمبراطورية عليها أن تحمي كيانها وحدودها. فكيف تفعل ذلك من دون جيش وعساكر مستعدين للقتال؟ وكالعادة استطاعت السلطة أن تستحصل على فتوى من رجال الدين تحل لها المشكلة. نعم المسيحي لا يقاتل. ولكنه يقاتل إذا كانت الحرب حربا عادلة. وهكذا ظهر مفهوم «الحرب العادلة» في أفق السياسة الأوروبية. وكلها ذرائع لتبرير الحرب. الألمان يعلنون الحرب على الإنجليز من أجل العدالة، والإنجليز يحاربونهم في حرب عادلة من أجل الديمقراطية، الفرنسيون يغزون المغرب العربي من أجل نشر المدنية. بيد أن مسيحيين آخرين رفضوا هذه اللعبة كما سأشرح مستقبلا.